Monday, June 17, 2013

اللغة العربية والثقافة الإسلامية


اللغة العربية والثقافة الإسلامية تستمد قوتها من القرآن الكريم، لذلك اللغة العربية والثقافة الإسلامية ربانية التوجه والمصدر، فهي جزء من حياة العالم بكامل أطيافه وأجناسه، لا يمكن أن نستغني أو نستضعف هذه اللغة ولا يمكن التخلي عن أساس الإنسان وطبيعته وهي ثقافته الإسلامية، حيث أنها تصل إلى مرحلة الشمول والتكامل والتوازن، في هذه الدراسة أو البحث الذي قمت بتجميعه من أكثر من موقع وكتاب ومحاضرة وخطابات أتحدث عن مواضيع مهمة يجب أن نعرفها كواجب علينا أهل اللغة والثقافة.

مقدمة
لكل شعب ثقافته التي يتميَّز بها عن غيره، وتنعكس هذه الثَّقافة على لغة هذا الشَّعب، فاللُّغة في أي مجتمع هي مرآة ثقافته، وهي الوسيلة التي تستخدمها الشعوب للتَّعبير عن العناصر المختلفة للثَّقافة: عاداتها وقوانينها وتقاليدها ومفاهيمها، ويوجد تكامل بين اللُّغة والثَّقافة، وكلاهما يكتسب بصورة اجتِماعيَّة، فالتَّكامُل بين اللُّغة والثَّقافة على درجة كبيرة من الأهمّيَّة، وتبرز تلك الأهمّيَّة بوضوح في مجال تعليم اللغات عامَّة، وتعليم اللغة العربيَّة علي الخصوص.
 مفهوم الثَّقافة هو مجموع القيم والمفاهيم التي تحكم سلوك الأفراد أو المجتمع في حقبة معيَّنة من التاريخ؛ (عوض، يوسف نور: 5).
 تتناول الدراسة بالتَّعريف الثَّقافة مع صلة وعلاقة بينها وبين اللغة العربية والدين الإسلامي، وبيان خصائص الثَّقافة العربيَّة الإسلامية بالنَّظر إلى المنهج الإسلامي للثَّقافة، وتأثير اللغة العربية على الثَّقافة وتحديداتِها، وذلك استخدامًا في الكتابة والمحاورة.
 وجدت الدراسة أنَّ تأثير اللغة على المسلمين كبير، ولكن الغربيّين حاولوا كلَّ محاولتهم في سبيل التَّفريق بين اللّغة العربية والثَّقافة الإسلاميّة، ولكن لم ينجحوا؛ لأنَّ المسلمين كان لهم دوْر مهمّ لا يُنسى في تاريخ تطوُّر اللغة العربية بإنشاء علوم لغويَّة متعدِّدة، تُعين على إحياء اللّغة وإبقائها وانتشارها في أنحاء العالم، حتَّى لدى الأمم المتَّحدة.

تعريف اللغة:
لقد جاء في تعريف اللُّغة أنَّها:
اللغة: اللسن، وهي فُعْلَة من لَغَوت؛ أي: تكلَّمت، أصلها: لُغْوَة، وقيل: أصلها: لُغَيٌ أو لُغَوٌ، وجمعُها: لُغًى ولغات ولُغُون، وقيل: أُخذت اللغةُ من قولهم: لغا فلانٌ عن الصَّواب وعن الطَّريق، إذا مال عنْه؛ لأنَّ هؤلاء تكلَّموا بكلام مالوا فيه عن لغة هؤلاء الآخرين، وقيل: إنَّها ما جرى على لسان كلّ قوم.
 وقد قيل: إنَّها الكلام المُصطلح عليه بين كلّ قبيلة، اختلف العُلماء في تعْريف اللُّغة ومفهومها، وليس هناك اتّفاق شامِل على مفهوم اللغة، ويرجع السَّبب إلى ارتِباط اللغة بكثيرٍ من العلوم.
 أوَّل مَن عرف اللغة أبو الفتح عثمان بن جنّي في كتابه "الخصائص"، وقال: إنَّ اللغة هي مجموعة من الأصوات يعبّر بها كلُّ قومٍ عن أغراضهم.
 وتتميَّز كلّ لغة عن غيرها من اللُّغات بصفات جوهريَّة تُباعد ما بينها وبين غيرها، فإن كانت الفروق يسيرةً لا تمنع التَّفاهُم لم تؤدّ إلى فصْل، وهذا التَّعريف قاصر لأنَّه اعتمد على اللّغة اللفظيَّة فقط وأهْمل اللغة غير اللفظية، كلغة الإشارة ولغة الجسَد وأهميَّتها في التَّواصُل بين النَّاس.
 ولِتلافي هذا القصور في التَّعريف عرَّفها بعض اللُّغويّين بأنَّها: مَجموعة من الرّموز اللفظيَّة وغير اللفظيَّة يعبّر بها كلُّ قومٍ عن أغراضهم.
وعرَّفها بعضُهم بأنَّها: مجموعة من الرّموز والمصطلحات متَّفق عليْها بين أبناء الوطَن الواحد، أو بين أبناء المجتمع الواحِد؛ لتكون وسيلةً لتبادُل المعرفة فيما بينهم.
 وتمَّ الاتّفاق على التَّعريف الاصطلاحي كتعريف شامل للُّغة: اللُّغة عبارة عن نظام صوتي يَمتلِك سياقًا اجتِماعيًّا وثقافيًّا له دلالاتُه ورموزه، وهو قابل للنُّموّ والتطوّر، ويخضع في ذلك للظّروف التَّاريخيَّة والحضاريَّة التي يمر بها المجتمع.

مكانة اللغة العربية في الإسلام
اللغة العربية من أسمى اللغات التي ظهرت في تاريخ البشرية, بل هي أسماها على الإطلاق, وذلك لما فيها من خصائص ومميزات حباها الله عز وجل بها واصطفاها واختارها لتكون وعاءً لأفضل كتبه سبحانه وتعالى..

- كيف هي مكانة اللغة العربية في الإسلام؟! وهل الحديث عن اللغة العربية يُعد نوعًا من أنواع التعصب لها أم أن لها مكانة عظيمة أعلى من غيرها من اللغات الأخرى؟!
اللغات عمومًا على الأرض كلها تحظى بعناية أصحابها, وتحتل في حياتهم المكانة الكبرى والعظمى, واللغات هي وسيلة التخاطب والتفاهم, لا يستغني عنها أحد, واللغة العربية هي عندنا كذلك, لكنها تزيد على ذلك أنها عبادة, فممارسة اللغة عبادة, والتعامل بهذه اللغة إحياءً لأصولها وحرصا على سلامتها مع استشعار هذه النية نوع من أعظم العبادات, وتأتي أهمية اللغة العربية - وأعظم ما يجعلها مهمة في حياتنا - أنها لغة القرآن الكريم, وهي لغة الإسلام, وترتبط اللغة العربية في حياة المسلمين جميعًا بأداء الشعائر, فهي لغة تستمد عظمتها من مكانة القرآن والإسلام, والقاعدة الشرعية تقول: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب, ولما كانت قراءة القرآن واجبة والتعرف على أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم واجبة, والتعرف على قواعد العبادات والعقائد أمورًا واجبة, وكان لا يمكن التوصل إليها إلا باللغة العربية - كانت اللغة العربية لها درجة الوجوب نفسها التي تجب لكتاب الله تعالى وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم, من هنا كانت اللغة العربية تمثل لهذه الأمة هويتها, وتمثل لها استمراريتها في الحياة, وتمثل كذلك عمقها الإيماني وعمقها الروحي, وارتباطها التاريخي, فأنت لا تستطيع أن تميز أو أن تفصل بين الأمة العربية وبين اللغة العربية إلا إذا أمكنك أن تفصل بين الروح والجسد, فهي لغة تمتزج بكيان الأمة, وتستمد الأمة منها سيادتها وتميزها وهويتها وعمقها الحضاري.

- بمعنى أنها كما تستمد سيادتها وعزتها وهويتها من دينها فإنها تستمد ذلك كله من لغتها؛ لأن اللغة هي أصل الدين أو كما يقال: إن الدين لم يُصَغ إلا باللغة العربية؟!
إن اللغة العربية مهمة للتخاطب وفقط, فذلك أمر تشترك فيه جميع اللغات, لكن اللغة العربية شعيرة تمارس بروح الشعيرة, وتُطلب بروح الفريضة.

- وهذا ما يميزها عن بقية اللغات؟!
ولهذا نستطيع أن نقول: إن اللغة العربية باقية ما بقي هذا الدين.. باقية ما بقي رجل يقول: لا إله إلا الله.

- فكما تعهد الله سبحانه وتعالى بحفظ كتابه الكريم فقد تعهد بحفظ اللغة!!
اللغة هي وعاء القرآن التي شملت القرآن والتي وعت أسراره وقواعده وأحكامه.
يكفي أن الله عز وجل قد اختارها وعاءً للقرآن, للتعبير عن أدق معاني الذكر الحكيم, وحينما نزل القرآن بلغة العرب كانت اللغة العربية في قريش قد وصلت إلى درجة النضج والاكتمال, وكانت في ذلك الوقت في أبهى أثوابها, نظرًا لأن لهجة قريش هي اختيار موفق من لهجات ومفردات وأساليب العرب الذين كانوا يفدون إلى مكة في كل عام للحج وحضور أسواقها, كانت قريش تنتقي من هذه اللهجات معجمها اللغوي, وفي الوقت الذي نزل فيه القرآن الكريم كانت لهجة قريش وكانت اللغة العربية في قريش قد وصلت إلى أبهى درجات الاكتمال.


- كما أن القرآن هو أعظم الكتب فقد اختار الله عز وجل له أعظم وعاء, وهي اللغة العربية بأفصح لهجاتها.
ليس بعجيب أن يثني رب العزة عز وجل على القرآن الكريم لكونه عربيًا في أكثر من موضع, حيث يقول مثلاً في سورة يوسف: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف:2], وكأن يقول في سورة فصلت أيضًا: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [فصلت:3], وكأن يقول في سورة الكهف: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا} [الكهف:1], أساليبه ولغته لا اعوجاج فيها, بل تمثل قمة الاستقامة وقمة الفصاحة والبلاغة والبيان, وقوله تعالى: {قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} [الزمر:28] أي لا اعوجاج فيه. والنبي صلى الله عليه وسلم يمثل أيضًا بالنسبة للغة العربية قمة القمم في الأدب بوجه عام وفي البيان والفصاحة بوجه خاص, وكان عليه الصلاة والسلام الذوّاقة الأول للغة العرب حينما يقول: "إن من البيان لسحرًا وإن من الشعر لحكمة" فلا يقول ذلك إلا الذي يستعذب ويستمتع باللغة ويحسن رؤيتها, بل ويتمتع بها كذلك, ولعلكم تذكرون يوم أن دخل عليه كعب بن زهير وهو يريد أن يعلن إسلامه في المسجد النبوي المبارك, وقد أعد للحصول على العفو قصيدة, فإعداده لهذه القصيدة - وإن كانت مؤسسة على مدح الرسول عليه الصلاة والسلام - يدل دلالة قطعية على أنه يريد أن يقدم للنبي صلى الله عليه وسلم أحسن ما يريد الاستماع إليه, وبالفعل حصل على العفو الذي كان يريد, بعد أن قدم قصيدته في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم وفي مدح الإسلام وبيان عظمته ومنزلته, وفي النهاية لم يجد الرسول صلى الله عليه وسلم أحسن مكافأة إلا أن يخلع عليه بردته الشريفة صلى الله عليه وسلم, وصارت بعد ذلك شرفًا عظيمًا لكعب بن زهير, ونالت قصيدته أعلى منزلة في الشعر العربي, كل هذا يؤكد عظمة هذه اللغة واهتمام الإسلام بها والثناء عليها.
وإن اللغة العربية لغة أهل الجنة.. اللغة العربية لغة الدعوة, وأريد أن أؤكد هذا المعنى, لا يوفق في الدعوة إلى الله من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها إلا الذين تمكنوا منها وملكوا ناصيتها وأحسنوا التخاطب بها, وسيدنا موسى عليه السلام حينما أُمر من قبل رب العزة عز وجل أن يتوجه إلى فرعون وملئه طلب منه أن يزوده بهارون؛ لأنه كان أفصح منه لسانًا: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ} [القصص:34].
اللغة العربية كما أشار الأستاذ لغة عبادة, وكل من يبذل فيها جهدًا ويقبل عليها ويعلمها للناس يبذل جهدًا في العبادة, يقرب الناس من ربهم, كلما ازداد الإنسان قربًا من اللغة وفهمًا لها وأساليبها وأحكامها ازداد قربًا في ذات الوقت من كتاب رب العالمين وازداد فهمًا للقرآن الكريم وازداد فهمًا للسنة المباركة, وإلى جوار ذلك فإنها وسيلته للوصول إلى تراث الأمة الخالد العظيم الممثل فيما خلفته الأمة من صنوف العلم والمعرفة.

- اللغة العربية من أهم أدوات التواصل الفكري والثقافي بين عناصر المجتمع المختلفة, كما أنها إحدى أهم وسائل الأمن القومي. كيف تلعب اللغة العربية دورًا في توحيد الأمة؟! خاصة في خضم الأخطار التي تتهددها وتنصب عليها من كل جانب.
في الحقيقة لا أجد أجمع ولا أجمل مع الإفادة والدقة من تعبير الأستاذ العقاد عليه رحمة الله عندما وصف اللغة العربية بأنها "اللغة الشاعرة", وزاد فوصفها أيضًا فقال: اللغة العربية هي "الهوية الواقية", فالأصل في الناس أنهم يجتهدون ليقوا هويتهم حتى لا تضيع, لكن الأمر مع اللغة العربية يختلف, فاللغة العربية في هذا المقام هي التي تحمي أصحابها, هي الدرع والحصن الذي يذود عن هذه الأمة ويضمن كمالها ودوامها وثباتها واستقرارها.
توحيد لسان التخاطب بين أبناء الأمة يفتح مجالاً واسعًا لتوحيد المساحة الذهنية وتوحيد الفكر والقدرة على استنباط ما لدى الآخر, فالجميع يعيشون في كيان واحد, ويتعاملون بلغة واحدة, ويستشعرون جماليات واحدة, وينفعلون تذوقًا وجمالاً لما يسمعون, واللغة قادرة على أن ترفع أذواق الأمة جميعًا, وقادرة على أن تحمي أذواقنا وأسماعنا من أن نسمع ما يخدش الحياء, فلا تجد لغة عُنيت بالبعد الإنساني والبعد الذوقي كما تجد اللغة العربية, هناك أشياء لا يستطيع الإنسان أن يتخاطب بها رغم ضروريتا في حياته, فما يقع مثلاً للإنسان من الأمور الزوجية, والعلاقات الشخصية, وما يفعله الإنسان أحيانًا من أموره الضرورية فيريد أن يعبر عنها, فتأتي اللغة العربية لتقدم له ألفاظًا وبدائل تؤدي المطلوب وتحفظ الذوق وتمتع وتتكلم في أحرج المواقف وأدقها, فهي قادرة على أن ترفع الحس والذوق ليحتفظ الجميع بالذوقيات والأدبيات والمعاني بطريقة نظيفة.
ففي سورة يوسف, والموقف الدال على أعلى ما يمكن أن يصل إليه الحس البشري من أمور فطرية, يعبر عنه القرآن دون أن تستشعر في لحظة واحدة منذ بدأت القصة إلى أن أنهاها - وهي تبلغ الذروة في التعبير عما يطلب فطريًا بين الرجل والمرأة - لا تجد أبدًا أن هناك كلمة جرحت الذوق أو أسفّت أو أشعرت الإنسان بالحرج عن أن يتردد أن يقولها, ولكن الآيات تردد ونشعر عند سماعها بالمتعة والجمال.
فضلاً عن ذلك فإن اللغة العربية تشعر المتلقي دائمًا بأهميته, فعندما أحدّث المتلقّي باللغة العربية فأنا أرفع مقامه وأعليه, لأن اللغة العربية في تاريخها كله لغة رفعة.

- وعلى الرغم من ذلك فإن كثيرين يزعجهم التخاطب باللغة العربية, وبعض الناس يستشعر شيئًا من التكبر والتعالي من المخاطِب له بهذه الطريقة, ويتهمه بأن عنده شيئًا من الإعجاب بذاته أو الترفع عن الآخرين.
بالفعل هناك بعض المواقف يكون فيها الأداء فيه تصنع وتكلف, يكون منشؤه عدم القدرة على سيولة اللغة والتمكن من استخدامها والتعامل بها بيسر, فاللغة أيسر من ذلك بكثير, وأنا عندما أحدث الرجل الذي أمامي أختار اللغة التي تناسبه, وفي اللغة بدائل, وفيها مستويات, ليس ضروريًا أن أتحدث الفصحى فلأتحدث الفصيحة.

- اللغة التي نتحدث بها مثلاً في حوارنا هذا لغة سهلة ويسيرة, تستقبلها الأسماع بكل بساطة وسهولة.
أعتقد أن الجميع بكل المستويات يستسيغون كلامنا ولا يجدون صعوبة, فنحن نتحدث معهم باللغة العربية, ولا نقصد هنا أن ندرّس له قواعدها, إنما نقدم له اللغة كما قدمها القرآن, والجميع يقرءون القرآن ويستمعون إليه, وجميع طبقات الأمة في تاريخها كله وبكل مستوياتها يستمعون إلى القرآن ويتلذذون؛ لأنهم يفهمون ويعون جيدًا ما يريده القرآن وما تدل عليه دلالة الكلمات في اللغة العربية.

- هل بإمكان اللغة العربية أن تسهم في تقوية الأمة؟!
نعم.. اللغة العربية هي التي جمعت أمة العرب قديمًا وفي العصر الحديث, وهي التي أوجدت قنوات التخاطب وقنوات العلاقات بين أبناء العروبة, فعندما يوفد أبناء مصر على وجه الخصوص وأبناء العروبة من دول أخرى, عندما يوفد هؤلاء وهؤلاء لأداء رسالة التدريس في شتى بقاع الوطن العربي, ويقدمون خالص جهودهم للناشئة من أبناء العرب, أليس ذلك نوعًا من أنواع التواصل الذي كان سببًا في إقامة علاقات ثقافية على أعلى المستويات, الذي سهّل لأبناء العروبة من المحيط إلى الخليج أن يتعارفوا وأن يتعاونوا فيما بينهم, وأن تقوم بينهم أوثق العلاقات, والذي سهّل لي أن أبعث مثلاً إلى دولة الإمارات وغيرها من الدول العربية لغتي العربية التي حرصت عليها وأخلصت لها منذ نعومة أظافري, فمن الفرقة الثانية الإعدادية, فكنت إذا سئلت: ماذا تريد أن تدرس؟! وإلى أية كلية تريد أن تنتمي؟! قلت: كلية اللغة العربية, وظللت على ذلك العهد حتى جاءت الاستمارة وملأتها بالرغبات الثلاث: اللغة العربية ثم اللغة العربية ثم الشريعة والقانون, هذه اللغة العظيمة لها عظيم الأثر في حياتي شخصيًا, وقد تفضل الشيخ الجليل فقال ملمحًا جميلاً جدًا, حينما قال: أنت ترفع من قدر المخاطب حينما تتحدث إليه باللغة العربية, في ذات الوقت ينبغي أن نقول: اللغة العربية جزء لا يتجزأ من كيان وهوية الشخص نفسه, القادر على الإفصاح عما يجول في نفسه, القادر على تقديم نفسه للناس, الذي يحسن التعبير ويختصر الوقت في أوجز عبارة, لغة العروبة يا سيدي كانت سببًا فعلاً قويًا من أسباب التواصل بين أبناء الأمة, ليس أبناء الأمة العربية وفقط بل بين أبناء الأمة الإسلامية كذلك.
هناك نقطة مهمة في سورة يوسف عليه السلام, أرجو أن تسمع وأن تقف على واحدة من عظائم القرآن الكريم وأساليب العربية التي تحسم مواقف كثيرة من مواقف الاختلاف حينما يختلف الناس, في سورة يوسف عليه السلام امرأة العزيز راودته عن نفسه, وظهر له برهان, وهمت به وهم بها, وقال المفسرون في قضية الهمّ ما قالوا, وتعددت آراؤهم في الهم, أهو همّ كما يهمّ الرجل بأهله؟! أهو همّ شهوة؟! أهو همّ كما يهم الصائم بالماء لكن يمنعه أنه صائم ويمنعه مراقبة رب العالمين سبحانه وتعالى؟!! أم لم يحدث همّ مطلقًا؟!! تلك هي الإجابة الصحيحة التي نميل إليها بناءً على حتمية قوانين أساليب اللغة العربية؛ لأن التعبير كالآتي: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف:24], أين جواب لولا؟! جوابها محذوف نقدره من الكلام السابق عليها إذا لم يُذكر, فيكون التقدير: "ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه لهمَّ بها", وحضراتكم تعلمون أن "لولا" حرف امتناع لوجود, أي امتناع الجواب لوجود الشرط, كأن نقول مثلاً: لولا وجود المدارس والتعليم والجامعات لكنا في ظلام, فنحن لسنا في ظلام لأن الشرط موجود, إذن الجواب ممتنع, وبناءً على ذلك لم يقع من يوسف همّ مطلقًا, وعصمه الله عن ذلك, والدليل أيضًا قوله تعالى: {قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ} [يوسف: 32], أي تأبى عليّ إباءً شديدًا وطلب العصمة من رب العالمين سبحانه وتعالى.
أساليب اللغة تساعد جدًا في فهم القرآن الكريم, وتساعد في حسم أمور يقع فيها خلاف بين أهل الاختصاص حتى بين المفسرين, هذه واحدة فقط والتدليل على ذلك كثير وأموره عظيمة في لغة العرب وفي القرآن الكريم.

- تواجه اللغة العربية عقبات كثيرة في سبيل ترسيخها في أذهان أبنائها, فبصفتكما متخصصيْن في تدريس اللغة العربية للطلبة المتخصصين, كيف هو واقع اللغة العربية بين طلابها, لاسيما المتخصصين فيها؟!!
ربما يكون الكلام عن الواقع أقل من الواقع, فإن الواقع ملموس, يستطيع من ينظر إلى حال اللغة العربية بين أبنائها وفي أروقة المدارس وفي مناهج التعليم يستطيع بوضوح أن يلمس هذا الأمر, وفي الحقيقة هذا الهاجس أو هذا الهم الذي نلمسه واقعًا للغة العربية في مدارسنا لي عليه ملاحظات؛ الملاحظة الأولى: أن الشاب الذي التحق بأقسام اللغة العربية مدرسًا ربما لم يتوفر له من الحرص والحب والميل ما توفر لأساتذتنا .
مجيء الشاب إلى كلية الآداب أو دار العلوم أو اللغة العربية لأن مجموعه لا يقوى على أكثر من ذلك, أو لأن قدره أن يدخل هذه الكلية عامل خطير جدًا في توصيفه أو اختياره لفرع اللغة العربية, عندما يختار هذا الاختصاص بناءً على قَدَره في أنه لا يملك أكثر من ذلك فسيظل يتعامل مع واقع يتمنى لو انتهى أو أُزيل, فإذا قُدر عليه أن هذا الواقع لن يزول وإنما سيكون هو عيشه وعمله ووظيفته ومنها يأكل ومنها يعيش فسوف يأخذ منحى آخر, إما أن يتعايش مع قدره فيحبه, فيتعمق في فهم اللغة والاطلاع عليها والحرص على مصادرها والتذوق لأساليبها, وهنا تجد النماذج الفذة التي نلمسها في مدارسنا بين بعض المدرسين, وإما أن يظل صاحب وظيفة فقط يريد أن يؤدي العبء الذي عليه, ومثل هذا لن يتحول في يوم من الأيام إلى صاحب رسالة, سيظل صاحب وظيفة إلى أن يملك الهمّ, وإلى أن يستشعر قداسة اللغة, وإلى أن يمتلك أدوات الذوق والجماليات, فيهرب من الدنيا كلها إلى اللغة ولا يهرب من اللغة إلى الشارع, سيجد أن حياته ومتعته ولذته في كثرة ما يأرز إلى اللغة ويعود إليها.

- بمعنى أننا نبعد بالسبب مرة أخرى عن الطالب, أو بمعنى آخر هو مسئول وفي الوقت نفسه هو غير مسئول؟!
نعم.. وفي هذه النقطة قدرًا جاء نصيبه هكذا, لكن يستطيع أن يتعايش مع اللغة ويتذوقها وأن يجد حبه ومتعته في هذه اللغة, ولكن هناك أمرًا مهمًا جدًا في الحقيقة, إذا كان هذا الشعور جاء في حياة الطالب في سن الثامنة عشرة أو قرابة العشرين, فإن هناك أمرًا آخر جعل الطالب يشعر مثل هذا الشعور نحو اللغة العربية, عندما تزاحَم اللغة العربية في صفوف الحضانة بلغة أجنبية يشعر الطفل الصغير عند بداية تشكيله بأنه مزاحم بلغة أخرى, وربما وجد من الوسائل والتشجيع عليها أكثر مما يجد على لغته العربية.

هناك شغف غير عادي في هذه الأيام باللغة الإنجليزية وحروفها, سواء من الشباب أو الأطفال أو غيرهم, فمثلاً بعض القنوات الفضائية – حتى ولو كانت عربية – تتخذ لها شعارًا من بعض الحروف الإنجليزية, وملابس الشباب أيضًا مكتوب عليها بالحروف الإنجليزية دون معرفة معاني بعض هذه الكلمات, والتي قد تحتوي بعضها على نوع من الشتائم أو السباب للابسها, ككلمةCrazy التي تكتب على بعض الملابس والتي تعني "مجنون", وعلى العكس لم نرَ من يكتب كلمة باللغة العربية مفتخرًا بذلك أو سعيدًا بحمله لهذه اللغة. فما السبب في ذلك؟!
اللغة العربية ترتبط بالهوية وترتبط بالعزة وترتبط باستشعار السيادة والتميز والذاتية, المعتز بلغته يأبى كل الإباء أن تزاحم وأن يؤخذ منها إلى غيرها, وأن يُعلي غيرها عليها إلا إذا كان يتنصل من نسبته إلى أهله, وهذا لا يقع من الأحرار, التزاحم الشديد الذي أصبح يزاحم اللغة العربية في الشوارع والأزياء وعناوين المحلات وأسماء الشوارع في الغالب وفي لغة التخاطب والمستشفيات والمناهج وهذه الأشياء جميعًا, عندما يستشعر الإنسان معنى الاعتزاز يشعر بالألم وينقبض ويشعر بنوع من الخذلان والانتكاس؛ لأن الإنسان عندما يمارس هذه الأشياء ظنًا منه أنه يلتمس سيادة صاحب اللغة ويلتمس العزة من أصحابها ويلتمس التزيد والترفع والمهابة والمكانة عندما يخلطة العربية ترتبط بالهوية وترتبط بالعزة وترتبط باستشعار السيادة والتميز والذاتية, المعتز بلغته يأبى كل الإباء أن تزاحم وأن يؤخذ منها إلى غيرها, وأن يُعلي غيرها عليها إلا إذا كان يتنصل من نسبته إلى أهله, وهذا لا يقع من الأحرار, التزاحم الشديد الذي أصبح يزاحم اللغة العربية في الشوارع والأزياء وعناوين المحلات وأسماء الشوارع في الغالب وفي لغة التخاطب والمستشفيات والمناهج وهذه الأشياء جميعًا, عندما يستشعر الإنسان معنى الاعتزاز يشعر بالألم وينقبض ويشعر بنوع من الخذلان والانتكاس؛ لأن الإنسان عندما يمارس هذه الأشياء ظنًا منه أنه يلتمس سيادة صاحب اللغة ويلتمس العزة من أصحابها ويلتمس التزيد والترفع والمهابة والمكانة عندما يخلط كلامه ببعض الحروف الإنجليزية, بل إنك قد تجد بعضهم يتصنّع البحث عن البديل العربي وربما لا يجده ليشعرك أن الأصل عنده أنه إنجليزي. 

- والأمر مشاهد بصورة مقززة جدا!!
جدًا.. وتجده ربما يخلط كلامه ببعض الألفاظ الأجنبية ليشعر من أمامه أنه يتحدث بلغة السادة, ولو علم أن هذا السيد هو المستعمر, وهو الذي أذله واستعبده واستباح ماله وعرضه وبلده ووطنه, بل ولا يزال يمارس عليه أنواع الاستعباد, بل إني أسأله بالله: هل يجد واحدًا من هؤلاء في بلادهم يتزيد وجاهةً بالتحدث باللغة العربية؟!! هل يجد واحدًا يسمح لنفسه أن يتحدث في أروقة الجامعة أو في مجالات العمل أو في الشوارع أو في مستشفاه أو في أي مرفق ولو كان ضيقًا جدًا أن يتعامل باللغة العربية يتزيد بها وجاهةً وهو إنجليزي أو فرنسي.

- حتى أن موجه اللغة العربية نفسه انشغل أو أُشغل بأمور لا تمت إلى اللغة العربية بصلة, فإنه يدخل المدرسة لينظر في دورات المياه وصناديق القمامة ونظافة الفصل, وهي أمور مهمة, ولكنها ينبغي أن لا تدخل في صلب عمل موجه اللغة العربية.
انشغل الموجهون الآن بأمور كثيرة خارج نطاق المادة العلمية, والتي من المفترض أنه جاء لمتابعتها ولتصحيح وتقويم المعوجّ منها, هذا أمر في غاية الأهمية, ينبغي للمدرسة أن تحسن الإشراف على مدرسيها, وأن يتأكد المدير من أن المدرسين ملتزمون بأداء الدرس بالغة الفصيحة السليمة, وعليه وهو يتقبل من أبنائه الطلبة ومن بناته الطالبات أن لا يقبل منهم إلا اللغة الصحيحة الفصيحة, حتى لو أخطأ التلميذ أو أخطأت الطالبة, فعليه أن يصوب له الخطأ بطريقة لطيفة تربوية لا توقع التلميذ في الحرج, لأنه لو وقع في حرج يمكن أن يتحرج بعد ذلك ولا يتابع النشاط باللغة العربية الفصحى, فالمدرسة مسئولة مسئولية كبيرة إدارةً ومدرسين.
أيضًا وسائل وأجهزة الإعلام عليها دور كبير, برامج كثيرة جدًا يا سيدي تُقدم بالعامية, المسرحيات والمسلسلات تقدم بالعامية, حتى برامج الأطفال تقدم أيضًا بالعامية.

- ولم يتوقف الأمر على مجرد تقديمها بالعامية, وإنما إضافة إلى ذلك السخرية من أهل اللغة العربية.
نسمع كثيرًا عبارة "ما تكلمنيش بالنحوي".. هذه المهازل ينبغي أن تتوقف احترامًا وإجلالاً لهذه اللغة, ثم أقول للذين يخشون على أنفسهم وهم يتحدثون الفصحى من سخرية وهمز ولمز المجتمع: والله لا يضيركم أبدًا أن تتحدثوا بها إطلاقًا, هذا الذي يسخر إنما يسخر من نفسه ويهزأ من نفسه, ولو رآنا الناس جادين في استخدام هذه اللغة والتعامل بها مع كل الناس فما هو إلا وقت قليل وسيعترفون لنا بالفضل ويجبرون على التعامل معنا بكل احترام وجدية, وحينها سيكتسب المتحدث بها شكلاً عظيمًا ووجاهة وقيمة, وبالتالي سيكون مسموع الكلمة بين الناس مهابًا بينهم عن طريق استخدامه لهذه اللغة الفصيحة.

- هل كان الاحتلال أو كما يحلو للبعض أن يسميه "الاستعمار", هل كان يقف وراء ذلك المستوى المتدني للغة العربية التي نعيشه الآن في حياتنا؟!
لو نظرنا إلى دور الاستعمار – ونقول الاستعمار حتى نتفاهم بالمصطلح الشائع – فالاستعمار أو المحتل أول هم من همومه أن يسلب المستعمَر أو المحتل شخصيته, وأن يشعره بالانهزام, وأن يتأكد من أنه تابع ذلول مهيأ للاستماع, فاللغة العربية التي هي لغة القرآن ولغة العبادة ولغة الشعائر ولغة العلماء ولغة التعامل مع التراث ولغة التاريخ ولغة الاتصال بالقيم ولغة إحياء معاني التميز, هذه اللغة بكل هذا الزخم تصنع إنسانًا عظيمًا يستعصي على الاحتواء.. إنسانًا له تميزه وله اعتزازه, والمستعمر لا يمكن أن يقوم ويبقى ويستمر في بلد فيه عزة, وعينه الأولى في الأساس على أن يسلبه عزته وكرامته وهويته, وقد أشرت من قبل إلى الكلمة التي قالها العقاد عن اللغة العربية: "الهوية الواقية", فعندما كُسرت الهوية الواقية في الجزائر استطاعوا أن يفرنجوا الجزائر ويحولوا بينها وبين لغتها العربية حتى استعصى على أهل الجزائر أنفسهم كيف يتفاهمون, وفعلوا هذا في المغرب وفعلوه في بلاد كثيرة. أما في بلادنا وبفضل الله كان للأزهر فضل كبير بعد الله تبارك وتعالى على حماية هذه اللغة, والمتدينون والدعاة المصلحون المنتصبون للدفاع عن الدعوة وعن الإسلام همهم الأساسي الدفاع عن هذه اللغة حتى يسلُس لهم أمر الدفاع وأمر الدعوة في المجالات كلها, إذن التآمر على اللغة من أول مخطط "وليام ويلكوكس" في مشروعه الاستعماري الذي دعا إلى تمصير اللغة, وتحويلها إلى اللغة العامية المصرية, ومحاولته المستميتة لكي يحول بين الناس وبين أصول اللغة العربية, والمؤسف أن كثيرين ممن عاصروه صدّقوه وظلوا أن هذا الثعلب الماكر يريد خيرًا للغة العربية وأهلها, حتى بعض العلماء والمتخصصين سقطوا في أحابيله, وقالوا: نبحث عن بديل للغة العربية, ومنهم من قال: نكتبها بالحروف اللاتينية, ومنهم من قال: نختار لغة وسطًا بين العامية والفصحى ونسميها "الفصحمية".

- للأسف كان بعضهم من الرواد والمتخصصين في مجال اللغة العربية!!
في الحقيقة أسماء خطيرة جدًا, يؤسفنا أن يكون رجل بقدر "طه حسين" يقع في مثل هذا الأمر, وإن كنت – للإنصاف – أعلم أن الرجل في أواخر أيامه رجع عن هذا ودافع عن العربية, وآخرون غيره ولا نريد أن نذكر أسماءً, لكن يكفي أن حافظ إبراهيم قام ردًا على هذه الهجمة, وقام غيره, ولأن اللغة تلامس الفطرة, وتلامس العزة, وتلامس الميل القلبي والحب, ولأنها القرآن ولأنها الحديث, كان الناس جميعًا مهيئين لأن ينفعلوا ضد مثل هذه الدعوة ويبطلوها ويوقفوها.

- كيف السبيل إذن للنهوض بهذه اللغة من كبوتها والمحافظة عليها؟!!
لكل لغة حراس عليها.. لكل لغة رجال يدافعون عنها, من رجالنا المخلصين ومن علمائنا الأفاضل الذين جاد بهم الزمان من لدن فجر العربية إلى يومنا هذا, فحافظ إبراهيم في خضم هذه الأزمة ألقى قصيدته المشهورة دفاعًا عن اللغة العربية وفي صدرها يقول:
رجعت لنفسي فاتهمت حصاتي *** وناديت قومي فاحتسبت حياتي
رموني بعقم في الشباب وليتني *** عقمت فلم أجزع لقول عداتي
وَلَدْتُ وَلَمَّا لَمْ أَجِدْ لِعَرَائِسِي *** رِجَالاً وَأَكْفَاءً وَأَدْتُ بَنَاتِي
أنا البحر في أحشائه الدر كامن *** فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتي
موقف حافظ إبراهيم موقف فريد, نحن نريد من حراس العربية وعلمائها الأفاضل أن يوجدوا على الساحة, وأن يظهر منهم المختفون وهم كثيرون وهم أفذاذ, يستطيعون أن يكتبوا, وفي أجهزة الإعلام أن ينادوا بأعلى أصواتهم: كيف ننهض بالعربية؟! وينبهون إلى مواطن العلة والداء, ينبغي أن يكون هذا الصوت موجودًا في كل نوافذ الإعلام صباح مساء, لأن الموقف يحتاج إلى ذلك والموقف خطير للغاية, وقد تابعنا في الفترة الأخيرة من يؤكدون في بحوث أن اللغة العربية - وبالذات بين الناشئة - مهددة تهديدًا خطيرًا أن تتوارى عن ألسنة أبنائنا إزاء هذا النشاط اللغوي الأجنبي الذي يستشري يومًا بعد يوم, وبمناسبة ذلك أقول: نحن لسنا ضد اللغة الإنجليزية, نحن في حاجة إليها, والعولمة تفرض علينا ذلك, ولكن ليس على حساب اللغة العربية ولا على حساب التربية الدينية, والتربية الدينية بالمناسبة ينبغي أن يكون لها مجموعها, وأن يضاف إلى المجموع العام للثانوية العامة, هذا أمر مهم للغاية. أيضًا مسألة التعريب للتعليم العلمي التطبيقي, التجربة موجودة في سوريا الشقيقة, ونجحت نجاحًا باهرًا, ففي كليات الطب والهندسة والحاسبات تدرس هذه المواد هناك باللغة العربية. وهناك أمر أود أن أنبه عليه وأن ينتبه الجميع له: ينبغي أن يكون مقرر اللغة العربية موجودًا بكل الكليات لكل طالب جنبًا إلى جنب بجانب التربية الدينية, اللغة العربية ينبغي أن يكون لها وجود واضح في كل مراحل التعليم.. هذه مسألة مهمة. وأضف إليها إن تكرمت علينا إخواننا في وسائل الإعلام, عليهم أن يعيدوا حساباتهم وأن يفسحوا الطريق فقط للقادرين على التحدث وإدارة الحوار وتقديم البرامج باللغة الفصيحة.. هذه المسألة لا تقبل المناقشة. إلى إخواننا كذلك في السلك الدبلوماسي لا تتحدثوا إلا بالفصحى في المؤتمرات العامة, افرضوها فرضًا أينما وليتم وجوهكم.. احرصوا على أن تجعلوها لغة عالمية بكل الوسائل الممكنة وتمسكوا بها, فهي جزء من شخصيتكم وهوية أمتكم التي نعتز بها جميعًا.. ينبغي أن نفيق, وأن نعود إليها, مخلصين لها, حريصين عليها, متمسكين بها؛ لأنها لغة الله يوم القيامة ولغة أهل الجنة في الآخرة.

اللغة العربية ومكانتها في الثقافة العربية والإسلامية:
اللغة، كما يقرّر أكثر علمائها، لا تقتصر وظيفتها على التفاهم بين الأفراد وإنما تتجاوز ذلك إلى أنها الأداة التي يتعلّم ويفكّر بها الانسان. فهي تقود عقله وتوجهه، وبها يستدل على السلوك القويم مع الآخرين. وهي -فضلاً عن ذلك- تحفظ التراث الثقافي للمجتمعات. فهي إذن منظّمة العلاقات الاجتماعية، ووسيلة التعامل والتعاون بين أفراد المجتمع وأهم أدوات الحفاظ على كيانه. ويتبع ذلك أنها العامل الأول في انتشار الثقافة وتداولها في المجتمعات المتحضرة، وأنها من أهم مقوّمات الحضارة الانسانية.
ولقد كانت اللغة العربية، ومازالت، وثيقة الأواصر بهوية هذه الأمة، ووجودها وشخصيتها وخصائصها. فقد وعت منذ أمد بعيد تكوين الأمة الحضاري، وواكبت تطور تراثها الثقافي في العلوم والآداب والفنون والتشريع والفلسفة، وتعهدت نقله من جيل الى جيل عبر العصور. فهي قلب الأمة النابض وجهازها المحرّك.
ومعروف أنّ العربية من اللغات الموغلة في القدم. فمع جهلنا بتفاصيل طفولتها ونشأتها، لعدم ترك الأوائل آثاراً مكتوبة من الأزمنة السحيقة، نحن نعرف أنها كانت في أوج اكتمالها ونضجها منذ نحو ستة عشر قرناً من الزمن. وكانت لهجات القبائل العربية في الجزيرة قد تفاعلت فيما بينها وتكاملت في لهجة قريش، أهل مكة التي كانت مركزاً للحياة الاقتصادية والإجتماعية والدينية تؤمه القبائل لزيارة الكعبة الشريفة، وللمفاخرة والتنافس في الشعر والخطابة، وللتجارة وتبادل السلع.
ومع استمرار العربية منذئذ على النمو والإرتقاء والتجدّد، امتازت على وجه فريد بأنها حافظت على ملامحها الأصيلة في الأساليب والتراكيب وقواعدها الأساسية في النحو والصرف، واحتفظت بالكثير من مفرداتها ومصطلحاتها، حتى أنّ المرء ليعجب حينما يصغي الى أبيات من الشعر الجاهلي الذي قيل منذ ألف وخمسمائة عام ونيّف. ويبدو له وكأنه يستمع الى شعر حديث بكل سلاسته ووضوح عبارته وسهولة أسلوبه. وهي بهذا تتميّز عن لغات سائر الشعوب الحديثة، الذين يتعذّر عليهم فهم لغات السلف الذين سبقوهم بأربعة قرون أو خمسة في أحسن الأحوال.
لقد كانت نشأة اللغة العربية في شبه الجزيرة العربية مما وفّر لها أسباب صيانتها والمحافظة على كيانها لعدّة قرون قبل الإسلام. وسرعان ما انتشر العرب آنذاك في المناطق المجاورة، فدخلوا سورية والعراق، وحلّت العربية محلّ اللهجات الآرامية والسّريانية واللغتين اليونانية والفارسية فيهما. وكان لها الخصائص ما ميزها عن أخواتها الساميّات جميعاً. ففيها من عدد أصوات الحروف ما ليس في أيّ من اللغات البابلية والاشورية والفينيقية والعبرية والسّريانية والمندائية والآرامية والحميريّة والحبشية. بل انها تفوق اكثر لغات العالم الحية في هذا الخصوص وهي فضلاً عن ذلك من اغنى اللغات في تعداد أصول ألفاظها، وفي ثرائها بمفرداتها، وكثرة مترادفاتها، ودقة قواعدها، واحكام نحوها وصرفها، وفي وفرة أبنيتها الاشتقاقية واطّراء قياسها لدلالات كثيرة، وفي طواعيتها للمجاز، وايجاز عبارتها، وجمال أسلوبها وبيانها وبلاغة تعابيرها.
وقد اختار الله تعالى العربية فأنزل بها القرآن الكريم: «انّا أنزلناه قرآناً عربياً لعلّكم تعقلون». وكانت هذه اللغة الشريفة، بما بلغته من اكتمال، وبخصائصها الفريدة المتميزة، مؤهلة بحق للإعجاز الذي أودعه الله عزّ وجلّ تنزيله العزيز. وهكذا كان نزول آي الذكر الحكيم باللغة العربية من أقوى الدعائم في اقرار منزلتها الرفيعة بين لغات سائر الأمم.
والقرآن الكريم هو حافظ العربية ما حفظ الله تبارك وتعالى القرآن: «انّا نحن نزّلنا الذكر وانّا له لحافظون». ومن هنا ظلّت العربية وستظل تنمو وتقوى وترتقي الى ما شاء الله، ومهما حاولت يد السوء والعبث من النّيل منها أو اضعافها.
وغير خاف أنّ امتداد عمر العربية على هذا المدى الطويل، وارتباطها الوثيق بحياة الأمة وتجاربها، كان ممّا مهّد لها سبل الاغتناء، ووفّر لها أسباب النمو والاتساع. فقد ظهر مع مجيء الإسلام مصطلحات كثيرة، ودلالات جديدة للألفاظ استلزمتها قواعد التشريع وأصول تأدية الفرائض وسائر الأحكام والأمور الدينية التي جاء بها الإسلام، كما في ألفاظ القرآن الكريم، والإسلام، والصلاة، والزكاة، والتكبير، والأذان، ومئات غيرها من المصطلحات التشريعية والدينية التي أغنت اللغة كثيراً في تلك الحقبة وأنمت مفرداتها ودلالاتها.
والعربية ملازمة للفرائض الإسلامية. فقد أوجب الإسلام أن تكون اقامة الصلاة وتلاوة القرآن وترتيله، والأذان، ومناسك الحجّ، والدعاء، وسائر الشعائر الدينية كل ذلك باللغة العربية. وفرض على المسلمين في مختلف الاقطار والامصار تعلّم آي القرآن وحفظه وفهمه والاكثار من تلاوته. ويتحتم على الإمام والواعظ اتقان العربية، لكي يفهم أحكام القرآن والسنة، ويحسن شرحها وتفسيرها. ومعروف أن احكام القرآن وتعاليمه لا يصح ان تؤخذ إلاّ من نصه العربي، ولا تعدّ ترجمته الى أي لغة إلاّ تفسيراً لمعانيه، فلا تستنبط أحكامه منها.
لكل هذا ارتفعت منزلة العربية عند المسلمين، وتفقه المختصون في دراسة علوم العربية ووضع قواعدها في النحو والصرف والبيان والمعاني وموازين الشعرورسم الحروف والخط وغيرها، وألفوا فيها عدداً ضخماً من نفائس الكتب، ومنهم العرب وغيرهم. ونشطت لذلك بوجه خاص في زمن باكر مدرستا البصر والكوفة، فظهر في الأولى مثلاً أول معجم لغوي، وأول كتاب في اوزان الشعر، وأشهر كتاب في نحو العربية، منذ أكثر من اثني عشر قرناً، وهي معجم «العين» و«كتاب العروض» للعالم الفذّ الخليل بن أحمد الفراهيدي البصري، و«الكتاب» لسيبويه تلميذ الخليل وسادن علمه وممحصه وجاليه.
وكان الفتح الإسلامي قد امتد بسرعة الى سورية والعراق ومصر وبلاد فارس وليبيا وتونس والجزائر والمغرب والسودان والاندلس وجنوبي فرنسا وجنوبي ايطاليا وصقلية والى بلاد الترك والافغان والسند والهند وقفقاسيا، وغيرها من الاقطار الاخرى التي فتحها العرب واعتنقت الدين الإسلامي. وسرعان ما انتشرت مع الإسلام اللغة العربية، لغة القرآن، فهي الملائمة لشرح احكام التنزيل والسنة ونشر الثقافة العربية الإسلامية، فحلّت بمرونتها وتعبيريتها محلّ اللهجات السريانية والآرامية المحلية في سورية والعراق، وأزالت اللغتين اليونانية والفارسية فيهما (وكان الخليفة عبدالملك قد أمر في ثمانينيات القرن الأول الهجري بتعريب الدواوين في سورية والعراق بعد أن كانت لغتاهما الرسميتان اليونانية والفارسية). وحلّت العربية ايضاً محلّ اللغة القبطية في مصر والبربرية في اقطار شمال افريقيا، ومحلّ الفارسية في بلاد فارس (وان كانت هذه قد عادت الى الاستعمال في القرن الرابع الهجري).
ودخلت العربية بقية الاقطار التي دانت الإسلام، وبادر كثيرون ممن اعتنقوا الدين الإسلامي الى تعلم العربية لفهم احكام الدين، ولحسن الانتظام في سلك الدولة العربية الإسلامية التي انضووا تحت رايتها. وصار الناس في الاقطار الإسلامية غير العربية، ومازالوا يدينون بالاحترام لكل من يتقن العربية، إذ هو المتمكّن من فهم أحكام القرآن ونشر تعاليم الإسلام.
وهكذا بات للغة العربية منزلة كبيرة في مناطق كثيرة من العالم، فتركت أثراً ظاهراً في كل اللغات التي إتصلت بها، ومنها الفارسية والتركية والاوردية والبنغالية والسواحلية ولغات ما وراء النهر وافغانستان والسند والهند ومالطة واسبانيا وجنوب فرنسا وجنوب ايطاليا وصقلية. وأثرت حتى في لغات الاقوام البعيدين الذين كانت للمسلمين معهم تجارة فانتقلت اليهم العربية مع الإسلام كما في ماليزيا واندونيسيا والفلبين.
ومازال في بعض اللغات مئات، بل آلاف من الالفاظ العربية.. ففي اللغة الفارسية مثلاً تتراوح نسبة الكلمات العربية بين 04 بالمائة و05 بالمائة، ومثل ذلك يقال في اللغة التركية التي تضم عدداً كبيراً جداً من الالفاظ العربية.
وقد حلّ رسم الحرف العربي محل سواه في كثير من تلك الاقطار فسهّل فيها تعلّم العربية. ففي بلاد فارس مثلاً كانت الحروف الفهلوية المعقّدة تستعمل قبل مجيء الإسلام وحلول الحرف العربي السهل محلّها. ومثل ذلك حصل في رسم حروف اللغات التركية (التي استبدلت بها تركيا الحروف اللاتينية في أواخر عشرينيات هذا القرن) والكردية والاوردية والياشتوية (الافغانية) والبلوشية والبربرية، وغيرها.
لقد كان الفتح الإسلامي قد أمتدّ بعيداً في غضون قرن وبعض قرن. وسرعان ما توطّدت الحضارة العربية الإسلامية فاحتكّت بالحضارات والثقافات الاخرى، وتهيّأ لها المناخ لحركة علمية واسعة بدأت بالاهتمام بالترجمة، فكان خلفاء بني العبّاس يشترطون على أباطرة الروم بيعهم المخطوطات اليونانية في مختلف العلوم لترجمتها الى العربية، حتى أنّ المنصور كان يدفع ما يساوي وزن المخطوطات ذهباً. وأسس المأمون بيت الحكمة وأجزل العطاء للتراجمة، فترجموا علوم اليونان والهند في الطبّ والتشريح والهندسة والطبيعة والميكانيك والرياضيات والكيمياء والفلك والجغرافية والاخلاق والفلسفة وغيرها. ونشطت حركة التأليف العلمي وبرز علماء أجلاء تركوا آثاراً نفيسة في مختلف الفروع العلمية فأصلحوا كثيراً من الأخطاء العلمية لمن سبقهم وأضافوا الكثير من المعرفة النظرية والتطبيقية حتى بقيت كتبهم وعلومهم تدرّس في الشرق والغرب حتى أمد قريب.
وأسهم في هذه النهضة العلمية العظيمة علماء العالم العربي الإسلامي عرباً وغير عرب. وتعاونوا جميعاً على وضع الأسس المتينة واقامة البنيان الشامخة لعلم عربي - إسلامي ملأت شهرته الآفاق، وكانت سمته المميزة انه كتب كله باللغة العربية.
وكان لابد لهذه النهضة العلمية الواسعة ان يواكبها تطور كبير جداً في المفردات اللغوية العلمية لتتسع لمختلف فروع المعرفة التي عني بها المهتمون بالعلوم والآداب والفنون. وهكذا ظهرت مئات المصطلحات العلمية الجديدة من أمثال الجبر والجذر والجيب والحساب والهيئة والمنطق والسالب والموجب وغيرها. فكان نمو كبير جديد في اللغة العربية وباتت لغة علم وثقافة بجدارة فضلاً عن كونها لغة الدين واللغة الرسمية في الاقطار العربية الإسلامية.
ولا يخفى أنّ أثقال العربية بالألفاظ الاجنبية الغريبة عن الأذن العربية مما يمسخها ويسمها بالعجمة، فضلاً عن كونه من أبرز مظاهر التبعية الثقافية. ومن ثمّ كان العرب حريصين كلّ الحرص على الحفاظ على سلامة اللغة العربية وحفظها من تسرب الكثير من الالفاظ الاعجمية اليها. فان استعمل المترجمون لفظة اجنبية في مترجماتهم فسرعان ما كان الكتّاب والمؤلفون يستبدلون بها مصطلحاً عربياً في أغلب الاحوال. وهكذا حلّت مصطلحات الحساب والفلك والالحاد والتحليل والخطابة ،مثلاً، محلّ ألفاظ الارتماطيقا والاسطرونوميا والهرطقة والأنالوطيقا والريطوريقا التي استعملت في بادئ الأمر ثم أزالتها الكلمات العربيات. ومثل ذلك يقال في مئات الأمثلة من هذا القبيل، إذ لم يبق في الاستعمال سوى عدد محدود من ألفاظ الدخيل.
وقد حثّ قادة العرب والمسلمين وأئمتهم وفقهائهم على تعلّم العربية لغة القرآن والسنّة والحضارة العربية التي أعجبت واجتذبت كلّ من تعرّف كفاياتها وعرف أسرارها وسبر أغوارها.
قال الخليفة عمر (رضي الله عنه): تفقّهوا في السنّة وتفقّهوا في العربية وأعربوا القرآن فإنه عربي».
ويقول الإمام الشافعي: «ينبغي لكل أحد يقدر على تعلّم العربية أن يتعلّمها لأنها اللسان الأولى». ويقول أيضاً: «على كل مسلم أن يتعلّم من لسان العرب ما بلغه جهده، حتى يشهد به أن لا اله إلاّ الله وأن محمداً عبده ورسوله، ويتلو به كتاب الله وينطق بالذكر فيما افترض عليه من التكبير، وأمر به من التسبيح والتشهّد وغير ذلك، ومهما ازداد من العلم باللسان الذي جعله الله لسان من ختم به نبوته وأنزل به آخر كتبه، كان خيراً له».
ويمدح الفارابي العربية بقوله: «هذا لسان أهل الجنة، وهو المنزّه من بين الألسنة عن كل نقيصة، والمعلّى من كلّ خسيسة... فلم يجمع بين ساكنين او متحركين متضادين، ولم يلاق بين حرفين لا يأتلفان ولا يعذب النّطق بهما».
ويرى ابن فارس أن: «العلم بلغة العرب واجب على كلّ متعلّق من العلم بالقرآن والسنّة والفتيا بسبب حتى لا غنى بأحد منهم عنه، ذلك أن القرآن نازل بلغة العرب ورسول الله (صلى الله عليه وسلم) عربي»، ويؤكد في موضع آخر أن: «لغة العرب أفضل اللغات وأوسعها»، مشيراً الى قوله تعالى: «لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين»، ويقول: «... فلمّا خصّ سبحانه اللسان العربي بالبيان علم أنّ سائر اللغات قاصرة عنه وواقعة دونه».
ويشيد الثعالبي بحب العربية ويحثّ على صرف الهمة الى تعلّمها فيقول: «من أحب الله تعالى أحب رسوله محمد (صلى الله عليه وسلم)، ومن أحب رسوله العربي أحب العرب، ومن أحب العرب أحب العربية التي نزل بها أفضل الكتب... ومن أحب العربية عُني بها وثابر عليها وصرف همّته اليها، ومن هداه الله للإسلام وشرح صدره للايمان اهتم بها كاهتمام تحصيل زاده لنفسه».
ويبلغ تولّع البيروني بحب العربية المبلغ الذي يجعله يقول: «والله لأن أهجى بالعربية أحب اليَّ من أن أمدح بالفارسية».
ويعبّر الزمخشري عن شدة حبه للعربية بقوله: «الله أحمد أن جعلني من علماء العربية، وجبلني على الغضب للعربية والعصبية، وأبى لي أن أنفرد عن صميم أنصارهم وأنماز وأنضوي الى لفيف الشعوبية وأنحاز...».
ويحذّر ابن تيمية من ترك العربية والتعلق بلغات الأعاجم فيقول « أمّا اعتياد الخطاب بغير العربية التي هي شعار الإسلام ولغة القرآن حتى يصير ذلك عادة للعصر وأهله، ولأهل الدار، وللرجل مع صاحبه، ولأهل السوق، والأمراء، او لأهل الديوان، او لأهل الفقه، فلا ريب أن هذا مكروه فانه من التشبه بالأعاجم». وهو يؤكد وجوب تعلّم العربية بقوله: «... واللغة العربية من الدين، ومعرفتها فرض واجب، فان فهم القرآن والسنّة فرض، ولا يفهم إلاّ بفهم اللغة العربية، وما لا يتم الواجب إلاّ به فهو واجب».



تأثير اللغة العربية على الثقافة الإسلامية
اللغة والفكر والثقافة:
إنَّ اللغة خزَّان ثقافي فكري وديوان للحضارة، فالطّفل الَّذي نعلّمه اللغة العربيَّة، فنحن على الأصحّ نعلّمه الثَّقافة العربيَّة بكل تفصيلاتها، يلتزم بقيم متكلِّميها ويتشرَّب أنماطَهم في التَّفكير والرّؤية إلى العالم والأشْياء، وهذا ما تعجِز عنه الوسائط الأخرى، ومنْه؛ فإنَّ أيَّ تخلّف في اللغة يلزمه تخلُّف في الثقافة والوجدان الجمعي والانتماء إلى الوطن (المواطنة)؛ لأنَّ اللغة ليست وسيلة بريئة في التعلّم، بل شحنة يمكن أن تستثْمر إيجابًا أو سلبًا.
 إنَّ قيمة اللغة العربيَّة إذًا لا تكمن في قدسيَّتها أو ما يلفّ لفَّ ذلك، بل فيما تقوم به من تقطيع مفهومي ودفْع للمتكلّم والمتعلّم إلى الانتماء إليها.
 تأثير العربية على اللغات الأخرى:
امتدَّ تأثير العربية كمفردات وبنى لغويَّة في الكثير من اللغات الأخرى؛ بسبب الإسلام والجوار الجغرافي والتِّجارة فيما مضى، (هذا التَّأثير مشابه لتأْثير اللاتينيَّة في بقيَّة اللغات الأوربيَّة، وهو ملاحظ بشكْلٍ واضح في اللغة الفارسيَّة حيث المفردات العلميَّة معظمها عربيَّة، بالإضافة للعديد من المفردات المحكيَّة يوميّا) مثل: ليكن = لكن، و، تقريبي، عشق، فقط، باستثناي = باستثناء.
 اللغات الَّتي للعربيَّة فيها تأثير كبير أكثر من (30 %) من المفردات هي:
الأرديَّة والفارسيَّة والكشميرية والبشتونية والطاجيكية، وكافَّة اللغات التركيَّة والكردية والعبيرية والإسبانيَّة والصوماليَّة السواحيليَّة والتجرينيَّة والأوروميَّة والفولانية والهوسية والمالطية والبهاسا لغة ملايو (ولغة الديفيهي) لغة المالديف، وغيرها من اللغات.
 بعض هذه اللغات ما زالت تستعمل الأبجديَّة العربيَّة للكتابة، كالفارسيَّة والكشميريَّة والطاجيكيَّة والكردية والبهاسا.
 دخلت بعض الكلِمات العربيَّة في لغات أوربيَّة كثيرة، مثل الألمانيَّة والإنجليزيَّة والإسبانيَّة والفرنسيَّة والبرتغاليَّة.

 أهمية اللغة العربية:
إنَّ من عوامل تطوُّر اللغة اتِّصالَها وتأثُّرها باللغات الأخرى، فتحسنها حينًا أو تقبحها حينًا آخر، وتأخذ هذه من تلك، وكذلك العكس، وكلّها تكون على درجة إيمان أصحاب اللّغة المستعيرة باللُّغة المستعار منها، ومدى علاقتِها بعاداتِها وتقاليدها وعقائدها، إلاَّ إذا كان هذا التَّأثير نتيجة للغزْو بين الاثنَين، فحينئذٍ يكون قويًّا، ومع ذلك يصعب على لغة أن تغلب على أخرى، ما دام لها قواعدها اللغوية ويؤمن بها أهلها.
 فاللغة العربية لها نفوذها على لغات العالم وثقافته لأجْل إيمان المسلمين واعتقادهم بأنَّها جزء من دينهم، وبذا يحبّذونها حتَّى على لغاتهم، وهذه الفرصة للغة العربية فقط.
 اللغة العربية أكبر لغات المجموعة السَّامية من حيث عدد متحدِّثيها، ومن حيث انتشارُها وترحيبها في جميع أنحاء المعمورة (وافي، علي عبدالواحد، 1962).
 يتوزَّع متحدّثوها في المنطقة المعروفة باسم العالم العربي، وبالإضافة إلى العديد من المناطق الأخرى المجاورة، وخاصَّة المناطق التي يوجد فيها عدد كبير من المسلمين، وللّغة العربية أهمية قصوى لدى المسلمين، فهي لغة مصْدري التشريع الأساسيَّين في الإسلام: القرآن والأحاديث النبوية المروية عن النَّبي - صلَّى الله عليْه وسلَّم - ولا تتمّ الصَّلاة في الإسلام إلا بإتقان بعض من الكلمات العربيَّة، وباللغة العربية سجلت التطوّرات التي قد طرأت على المجتمع الإسلامي في مختلف المجالات، وبمجيء الإسلام ونزول القرآن الكريم باللغة العربية، وانتشار الإسلام في جميع أنحاء المعمورة، وتأْسيس الدولة على أيدي المسلمين، ارتفعت مكانة اللغة العربية، وأصبحت لغة السياسة والعِلْم والأدب والتجارة والتقنية في قرون طويلة في الأراضي التي حكمها المسلمون؛ (خليل، عمادالدين).
 كذلك تستمد اللغة العربيَّة أهمّيَّة كبيرة من خلال أنَّها لغة الثَّقافة والدّين والتَّعارُف لكثير من المسلمين وغيرهم في جميع أنحاء العالم، من المسلَّم به أنَّ اللغة هي الوسيلة الوحيدة التي تسجل بها الأمَّة علومها، وثقافتها، وتدوّن بها آدابها، وتكتب تاريخها ماضيه وحاضره.

 أهمّيَّة اللّغة:
أهمّية اجتِماعيَّة: يتمّ من خلالها التَّواصُل مع الآخَرين في المجتمع.
أهمّيَّة عقليَّة: اللغة هي أداة التَّفكير والثقافة للفرد.
أهمية نفسيَّة: يعبر بها الإنسان عن رغباته وانفِعالاته، مثال ذلك الشعراء والأُدَباء الَّذين يتغنَّون باللّغة.
أهمّيَّة جماليَّة: تفيد الإنسان في تذوق الأعمال الأدبيَّة المختلفة من شعر ونثر.
 يقول الفيلسوف الألماني فيخته: اللغة تجعل الأمَّة الناطقة بها كلاًّ متراصًّا حاضعًا لقوانين محدَّدة، وهي الرابطة بين عالم الأجسام وعالم الأذهان.
 ويقول "فوسلر": "إنَّ اللّغة القوميَّة وطن روحي يأوي من حُرِم وطنه علي الأرض.
 ويقول مصطفى صادق الرافعي: "إنَّ اللغة مظهر من مظاهر التَّاريخ، والتَّاريخ صفة الأمة، فاللّغة هي الصفة الثَّابتة التي لا تزول إلاَّ بزوال الجنسيَّة وانسلاخ الأمَّة من تاريخها".
 فقد ظهر مع مجيء الإسلام مصطلحات كثيرة، ودلالات جديدة للألفاظ استلْزمتْها قواعد التَّشريع وأصول تأدية الفرائض، وسائر الأحكام والأمور الدينيَّة الَّتي جاء بها الإسلام، كما في ألفاظ: القرآن الكريم، والإسلام، والصَّلاة، والزَّكاة، والتَّكبير، والأذان، ومئات غيرها من المصطلحات التشريعيَّة والدينيَّة، التي أغنت اللغة كثيرًا في تلك الحقبة، وأنْمت مفرداتِها ودلالاتِها، والعربيَّة ملازمة للفرائض الإسلاميَّة، فقد أوجب الإسلام أن تكونَ إقامة الصَّلاة وتلاوة القرآن وترْتيله، والأذان، ومناسك الحجِّ، والدّعاء، وسائر الشَّعائر الدينيَّة، كلّ ذلك باللغة العربية، وفرض على المسلمين في مختلف الأقطار والأمصار تعلُّم آيِ القرآن وحفْظه وفهْمه والإكثار من تلاوتِه، ويتحتَّم على الإمام والواعظ إتْقان العربيَّة؛ لكي يفهم أحكام القُرآن والسنَّة، ويحسن شرحها وتفسيرها.
 ومعروف أنَّ أحكام القرآن وتعاليمه لا يصحّ أن تؤخذ إلاَّ من نصِّه العربي، ولا تعدُّ ترجمته إلى أيّ لغة إلاَّ تفسيرًا لمعانيه، فلا تستنبط أحكامُه منها؛ لكلّ هذا ارتفعتْ منزلة العربيَّة عند المسلمين، وتفقَّه المختصّون في دراسة علوم العربيَّة ووضع قواعدِها في النَّحو والصرف والبيان والمعاني وموازين الشّعر، ورسم الحروف والخطّ وغيرها، وألَّفوا فيها عددًا ضخمًا من نفائس الكتب، ومنهم العرب وغيرهم.
 ونشطت لذلك بوجه خاصّ في زمن باكر مدرستا البصرة والكوفة، فظهر في الأولى مثلا أوَّل معجم لغوي، وأوَّل كتاب في أوْزان الشعر، وأشهرها كتاب "العين" في نحو العربية منذ أكثر من اثنَي عشر قرنًا، وهو معجم للعالم الفذِّ الخليل بن أحمد الفراهيدي البصري، وكتاب "العروض"، ولسيبويه تلميذ الخليل وساد علمه وممحّصه وجاليه، كتاب "الكتاب".
 والفتح الإسلامي قد امتدَّ بسرعة إلى سورية والعراق ومصر، وبلاد فارس وليبيا وتونس، والجزائر والمغرب والسودان، والأندلس وجنوبي فرنسا وجنوبي إيطاليا، وصقلية، وإلى بلاد الترك والأفغان والسند والهند وقفقاسيا، وغيرها من الأقطار الأُخرى الَّتي فتحها العرب واعتنقتِ الدّين الإسلامي.
 وسرعان ما انتشرتْ مع الإسلام اللّغة العربيَّة، لغة القرآن، فهي الملائِمة لشرْح أحكام التَّنزيل والسّنَّة ونشْر الثَّقافة العربيَّة الإسلاميَّة، فحلَّت بمرونتها وتعبيريَّتها محلَّ اللَّهجات السريانيَّة والآراميَّة المحلّيَّة في سورية والعراق، وأزالت اللُّغتَين اليونانيَّة والفارسيَّة فيهما.
 وكان الخليفة عبد الملك قد أمر في ثمانينيَّات القرن الأوَّل الهجري بتعْريب الدَّواوين في سورية والعراق، بعد أن كانت لغتاهما الرَّسميَّتان اليونانيَّة والفارسيَّة، وحلَّت العربيَّة أيضًا محلَّ اللغة القبطيَّة في مصر، والبربريَّة في أقطار شمال إفريقيا، ومحلَّ الفارسية في بلاد فارس، وإن كانت هذه قد عادت إلى الاستِعْمال في القرن الرابع الهجري، ودخلت العربيَّة بقيَّة الأقطار التي دانت الإسلام، وبادر كثيرون ممَّن اعتنقوا الدين الإسلامي إلى تعلّم العربيَّة لفهم أحكام الدين، ولحُسْن الانتظام في سلك الدَّولة العربيَّة الإسلاميَّة الَّتي انضوَوا تحت رايتها، وصار النَّاس في الأقطار الإسلاميَّة غير العربيَّة، ومازالوا يدينون بالاحترام لكلّ مَن يتقن العربيَّة؛ إذ هو المتمكِّن من فهْم أحكام القرآن ونشْر تعاليم الإسلام، وهكذا بات للّغة العربيَّة منزلة كبيرة في مناطق كثيرة من العالم، فتركتْ أثرًا ظاهرًا في كلّ اللّغات الَّتي اتَّصلت بها، ومنها الفارسية والتّركيَّة والأورديَّة والبنغاليَّة والسواحليَّة، ولغات ما وراء النَّهر وأفغانستان والسند والهند، ومالطة وإسبانيا وجنوب فرنسا وجنوب إيطاليا وصقلية.
 وأثَّرت حتَّى في لغات الأقوام البعيدين الَّذين كانت للمسلمين معهم تِجارة، فانتقلت إليهم العربيَّة مع الإسلام، كما في ماليزيا وأندونيسيا والفلبين، ومازال في بعض اللغات مئات بل آلاف من الألفاظ العربيَّة، ففي اللغة الفارسية مثلا تَتراوح نسبة الكلمات العربية بين 4 بالمائة و 5 بالمائة، ومثل ذلك يقال في اللّغة التركيَّة التي تضم عددًا كبيرًا جدًّا من الألفاظ العربية.
 وقد حلَّ رسم الحرف العربي محلَّ سواه في كثير من تلك الأقطار، فسهّل فيها تعلُّم العربية، ففي بلاد فارس مثلاً كانت الحروف الفهلوية المعقَّدة تستعمل قبل مجيء الإسلام، وحلَّ الحرف العربي السهل محلَّها، ومثل ذلك حصل في رسم حروف اللغات التركية التي استبدلت بها تركيا الحروف اللاتينيَّة في أواخر عشرينيَّات هذا القرن، (والكردية والأوردية والباشتونية) الأفغانية والبلوشية والبربرية، وغيرها.
 لقد كان الفتح الإسلامي قد امتدَّ بعيدًا في غضون قرن وبعض قرن، وسرعان ما توطَّدت الحضارة العربيَّة الإسلاميَّة فاحتكَّت بالحضارات والثَّقافات الأخرى، وتهيَّأ لها المناخ لحركة علميَّة واسعة بدأت بالاهتِمام بالتَّرجمة، فكان خلفاء بني العبَّاس يشترطون على أباطرة الروم بيْعَهم المخطوطات اليونانيَّة في مختلف العلوم لترجمتها إلى العربية، حتى إنَّ المنصور كان يدفع ما يساوي وزن المخطوطات ذهبًا، وأسَّس المأمون بيت الحكمة وأجزل العطاء للتراجمة، فترجموا علوم اليونان والهند في الطّبِّ والتَّشريح والهندسة والطبيعة والميكانيك والرياضيات والكيمياء، والفلك والجغرافية والأخلاق والفلسفة وغيرها.
 ونشطت حركة التَّأليف العلمي وبرز علماء أجلاء تركوا آثارًا نفيسة في مختلف الفروع العلميَّة، فأصلحوا كثيرًا من الأخطاء العلميَّة لمن سبقهم، وأضافوا الكثير من المعرفة النَّظريَّة والتَّطبيقيَّة، حتَّى بقِيت كتبُهم وعلومهم تدرَّس في الشَّرق والغرب حتَّى أمدٍ قريب.

 مصطلح "الثقافة" وتحديد مفهومها:
تقابل كلمة "الثقافة" في اللغة الإنجليزيَّة كلمة (Culture)، ويدلّ على هذا المصطلح الإنجليزي في اللغة العربيَّة لفظان غير مترادفَين ولا قريبَين في الدلالة أو في الجذر اللغوي، حيث ترجم إلى ثقافة مرَّة، وإلى حضارة مرَّة أخرى، أو إلى اللفظَين معًا، فيقال: إنَّ (Culture) هي الثقافة والحضارة، وإذا نظرنا إلى التراث العربي واللغة العربية لا نكاد نجِد أصلاً يحمل دلالة هذا المصطلح، في المعجم الوسيط مثلا ورد كلمة ثقف: حذق وفهم، والثَّقافة: العلوم والمعارف والفنون التي يطلب العلم بها والحذق فيها، بيد أنَّ الحضارة من "تحضّر"؛ أي: تخلَّق بأخلاق الحضر أو عاداتهم، وهي مظاهر الرقيّ العلمي والفني والاجتماعي في الحضر.
 وعلى هذا النمط اختلفت تعاريف الثَّقافة عبر العصور بين حرث الأرض والأدبي، فمثلاً في دراسات تتناول التَّربية والإبداع، فالثَّقافة هي ذلك الكل المركَّب الَّذي يشمل المعرفة والعقيدة والأخلاق والقانون والعادات، وكلّ القدرات التي يكتسبها الإنسان داخل المجموعة البشريَّة، أو في المجتمع، وقد استخلص من مفهوم الثقافة أنَّها تتكوَّن من العناصر الثَّلاثة التَّالية:
القيم والمبادئ والمعتقدات.
الأنماط السلوكية.
جزاءات جماعيَّة للممارسة والتعامل.

وتأخذ الثقافة مجموعة من الأبعاد منها:
1- البعد الإدْراكي عن الواقع الاجتماعي الذي نعيش فيه، بالتساؤل عن الذَّات والعلاقة مع الآخر.
2- البعد المعياري، ويقوم على تحديد هرمي للقيم والتَّمييز بين الخير والشَّرِّ.
3- البعد الإرادي، ويدور حول الخطوات التي يَجب اتّباعها.



يبدو من خلال العناصر الأساسية المكوّنة للثَّقافة، ومن خلال أبعادها أنَّها تقوم بالوظائف التَّالية:
1- أنها أداة لإدراك العالم.
2- أنَّها هي التي تحرك الحوافز الإنسانية.
3- أنَّها توفر معايير للحكم.
4- أنَّها توفر قاعدة للتحديد والتمييز.
5- أنَّها طريقة للتواصُل.
6- أنها توفر قاعدة للتقييم.
7- أنَّها تعبر عن نظام الإنتاج والاستهلاك.

يمكن القول في النّهاية بأنَّ الثقافة هي نتاج مجموعة من العوامل المعنويَّة والمادّيَّة، وهي بالتَّالي عملية لا تعرف الثبات؛ لأنَّها مرتبطة بالإنسان الَّذي لا يعرف الثَّبات بدوره، فموضوع الثَّقافة هو الإنسان حينما ينتقل من المرحلة الطبيعيَّة إلى المرحلة الثَّقافيَّة، وهذا أخصّ ما يميّزه عن الكائنات الحيَّة، ولعلَّ الَّذي يدعونا إلى اللجوء إلى الثَّقافة هو حاجاتُنا إلى البحث عن المشترك الإنساني، وعن العنصر الجامع بين الإنسان.
 ويركز المفهوم الأنثروبولوجي للثَّقافة على هذا المشترك الإنساني بين المجموعة البشرية؛ لأنَّه هو الَّذي جعل الإنسان كائنًا متميّزًا عن سائر الكائنات الحيَّة الأخرى، فالإنسان يسعى باستِمرار إلى الاجتماع وتكوين مجتمعه، بل ويبحث دائمًا عن تغْيير مجتمعه وتطْويره.
 الثقافة بهذا المعنى تقوم على بناء التَّواصُلات وتحديدها تحقيقًا لاستمراريَّة الإنسان، وبحثًا عن وضع أحسن لوجوده، ولتحقيق تلك التَّواصُلات والبناءات المشتركة؛ لا بدَّ من تحريك المشترك الإنساني في الثَّقافة.
 والمشترك الإنساني يقوم أساسًا على الحوار والحواريَّة الَّتي تميّز كلَّ ثقافة، وإلاَّ فقدت ثقافيَّتها أو إنسانيَّتها، الحوار الثقافي وفضاءاته في كتاب "الأغاني" لأبي الفرج الأصفهاني، الدكتور محمد اللوزي، جامعة محمد الخامس، أكدال، كلية الآداب والعلوم الإنسانيَّة، الرباط.

 أهمّيَّة تعليم الثَّقافة في برامج تعليم اللغات الأجنبيَّة للدَّارسين، وتتضمَّن الثَّقافة بالمعنى الواسع عنصريْن رئيسَين هما:
أ- الثقافة الأنثروبولوجيَّة أو الاجتماعية، حيث تشمل العادات والاتجاهات والتَّقاليد.
ب- تاريخ الحضارة، والَّذي يشمل الفنون والإنجازات العلميَّة والعلوم الاجتماعيَّة.
 ويعدّ العنصر الثَّاني أساس العنصر الأوَّل حيث يعرض تراث المجتمع؛ ولذا يجب أن يعرفه الدَّارسون لكي يستوعبوا الثَّقافة المستهدفة ثقافة اللّغة التي يراد تعلُّمها، وأرى أنَّ العنصر الرَّئيس لا بدَّ أن يأتي في التَّرتيب أوَّلا؛ نظرًا لأهميَّته ودوره في إثراء الثَّقافة، ومن ثمَّ في تعريف الدَّارسين بها، وبالإضافة إلى ذلك فإنَّ التَّكامُل بين اللغة والثَّقافة يؤدّي إلى تنمية المهارات اللغويَّة والمهارات الثَّقافيَّة لدى الدَّارسين، كما يجعلهم متجاوبين بصورة أفضل مع النَّاطقين الأصليّين للغة الثَّانية، وبناءً على ذلك فإنَّ الدَّارسين تكون لديْهِم القدرة على فهْم أفكار وسلوكيات الشعوب التي يتعلَّمون لُغَتها، كما يتمكَّنون من فهْم المعاني التي يستخدمونَها، ويُمكن أن ندرك أهمّيَّة هذا التَّكامُل عندما نلاحظ أنَّ الدَّارسين للُّغات الأخرى لا يتَّسع أُفُقهم للثَّقافة المستهْدفة فقط، ولكنَّه أيضًا لثقافاتِهم الأصليَّة بحيث ينظرون إليْها نظرةً أشْمل وأوسع عمَّا كانوا عليه قبل دراساتِهم للّغة المستهدفة، وبالتَّالي يُصبحون أكثر احترامًا للثَّقافات الأخرى، وأكثر تقديرًا لمشاعر الآخرين؛ لأنَّهم يستطيعون أن يفهموا أنماطهم الثَّقافيَّة، ويدركوا دلالاتها الثقافية، ومن هنا تنبع أهمّيَّة تدْريس الثَّقافة العربيَّة الإسلامية لدى دارسي اللّغة العربيَّة من الناطقين باللغات الأخرى.
 ولقد أكَّدت الدّراسات الأجنبيَّة السَّابقة أنَّ تدريس اللّغة بدون ثقافتها، أو تدْريسها من خلال لغة وسيطة، لا يُفيد الدَّارسين كثيرًا؛ بل تصبح عمليَّة تدريس اللُّغة - إلى حدٍّ ما - مضيعة للوقت والجهد، سواء بالنِّسْبة للمعلّم أو المتعلّم، بالإضافة إلى أنَّ اللُّغة تصبح غير نافعة، وعسيرة الفهْم على الدَّارسين، كما أنَّها بهذا الشَّكل لا تُساعد الدَّارسين على الاتِّصال الفعَّال بأهل اللُّغة التي يودّون تعلُّمها، وينبغي أن تعلم اللغة بذاتها، وليس من خلال لغة وسيطة؛ حيث إنَّ لكلّ لغة ذاتيَّتها الثَّقافيَّة، فإذا ترْجمت بعض كلماتها إلى لغة أخرى فقدتْ معناها الثقافيَّ الخاصَّ بها.
 ولِلثَّقافة أثر كبير في نفوس الدَّارسين؛ إذ تؤدّي إلى تنمية الاتّجاه الإيجابي نحو اللّغة الَّتي يتعلَّمونها؛ لأنَّها تجعل عمليَّة التَّدريس مُمتعة ومشوّقة، حيث يتعرَّف الدَّارسون على أنماط ثقافيَّة جديدة تختلف عمَّا في ثقافاتِهم الأصليَّة، وهذا يؤدّي إلى زيادة اهتِمامات الدَّارسين وإثارة دافعيَّتهم لكي يتعرَّفوا على الأنْماط الثَّقافيَّة الجديدة في اللّغة المستهدفة، والمقصود بها هنا اللغة العربية.
 وبالإضافة إلى ذلك، فإنَّ الثَّقافة تؤدّي إلى تقليل العرقيَّة لدى الدَّارسين، ممَّا يجعلهم يتقبَّلون الثَّقافات الأخرى، وتكون لديهم القدرة على التَّكيّف والتَّفاعل مع الشعوب الأخرى، على الرغْم من اختِلاف ثقافاتهم عن ثقافة الدَّارسين الأصليَّة.
 ومن خلال ما سبق يتَّضح مدى أهمّيَّة تعْليم الثَّقافة في برامج تعليم اللغات الأجنبيَّة للدَّارسين، حيث تؤدّي إلى تكوين اتجاه إيجابي نحو اللّغة المستهْدفة وثقافتها، وهذا ينطبق على تعْليم اللّغة العربيَّة وثقافتها، فتعليم الثَّقافة العربيَّة الإسلاميَّة على درجة كبيرة من الأهمّيَّة في مساعدة الدَّارسين على تعلّم اللغة العربيَّة، وتحقيق الاتّصال اللغوي الفعَّال مع الشعوب العربيَّة، وتغيير الاتجاهات السلبيَّة أو العدائيَّة لدى دارسي اللّغة العربيَّة من النَّاطقين بلغات أُخرى، وتكوين الاتّجاهات الإيجابيَّة نحو الشعوب العربيَّة.
 وعلى الرَّغْم من أنَّ الدَّارسين يصِلُون إلى المستوى المتقدّم، فإنَّهم يفتقِرون إلى استيعاب مفاهيم الثَّقافة العربيَّة الإسلاميَّة وأنْماطها، ومازال لدى بعضهم أسئِلة وقضايا تدلُّ على أنَّ هناك تفاوتًا ثقافيًّا بين هؤلاء الدَّارسين والثَّقافة العربيَّة الإسلاميَّة، وقد كانت هناك بعض الأسباب الَّتي أكَّدت على أنَّ الجانب اللغوي يَطْغى على الجانب الثَّقافي، على الرَّغم من أنَّ بعض الكتب لتعْليم اللغة العربية للنَّاطقين بلغات أخرى تشتمِل على مفاهيم وأنماط ثقافيَّة - يفترض تزويد الدَّارسين بها - إلاَّ أنَّها لا تجد مَن ينقلها من نطاق التَّراكيب اللغويَّة إلى نطاق ما تحمله من مفاهيم وأنْماط ثقافيَّة في أثناء عمليَّة التَّدريس، فقد يكون الأمر راجعًا إلى عدم تَحديد الأهداف الثَّقافيَّة ضمن برامج تعليم اللّغة العربيَّة للنَّاطقين بلغات أخرى بصورة واضحة، ومن ثمَّ لا تُظهر أنشطة التَّدريس وطرُقه ما يؤكد تحقيقها، وكذلك في أساليب التَّقويم وأدواته أو في إعْداد المعلّم أو في المحتوى الَّذي يقدَّم للدَّارسين.

 آثار العربيَّة في الثَّقافة الإسلاميَّة عامَّة:
إنَّ المسلمين قد اهتمُّوا بضبط اللّغة وجمعها، وتحْديد ألفاظها، وقد أدَّى هذا الاهتِمام إلى ظهور المعاجم اللّغويَّة والنَّحويَّة والصَّرف والعروض، وهي من العلوم الدينيَّة بمنزلة الآلة؛ (محمد حسن، 46، 2000).
 وتأثيرها على ثقافة المسلمين يكون من أوجه متعدّدة، منها:
1- أسلوب التحيَّة بالتَّسليم وردّه.
2- استخدام بعض مصطلحات عربيَّة متعلقة بالدّين الإسلامي، كالصَّلاة والحجّ والزَّكاة، والمسجد والجنازة والدّعاء والنكاح والطلاق.
كاد أن لا يوجد مسلم لا يفهم أو لا ينطق بتِلك المصطلحات اللغويَّة العربيَّة، مهما كان ضعْفه في العربيَّة وإن لم يكن عربيًّا.
3- وأسلوب الكتابة بالأحرُف العربيَّة عند بعض اللّغات المنتمية إلى الإسلام، كالفارسيَّة والتّركيَّة والمالايوية والهاوسا والأورديَّة، وغيرها من اللغات التي تعتبر لغات المسلمين.
4- ومنها: قرض مفردات اللغة العربيَّة إلى بعض تلك اللّغات المذْكورة.
5- العربيَّة كوسيلة مهمَّة في أداء العبادات المحتاجة إلى التلفُّظ، كالقراءة في الصلاة، والتّلاوة والتَّلبية في الحجّ، والتلفظ بالأدعية والأذكار المأثورة وغيرها.
6- وقد أثَّرت العربية في القراءاتِ القرآنيَّة، من حيثُ إنَّ لكلّ قراءة دليلها المقنع في اللغة، لاسيَّما إذا كانت مثل هذه القراءة من القراءات الصَّحيحة.
7- ومن بين أوجُه تأثير العربيَّة في ثقافتنا: نزول القرآن دستور المسلمين نفسه باللّغة العربيَّة، وقد تكرَّر الإقرار بنزول القُرآن بهذه اللغة العربيَّة لحكمة التبيّن والتعقّل والتدبّر المحكم والتفصيل، فيما بلغ إحدى عشرة مرَّة (فصلت: 44، الرعد: 37، الرمز: 28).

 التحديات في وجه الثقافة العربية الإسلامية:
بدأت الحملات الغربيَّة توجّه إلى الثقافة العربية من خلال أرسخ الحصون وأقواها، وهو الإسلام نفسه، وقد حاولوا عدَّة مرَّات وما زالوا في الدَّعوة إلى التَّفرقة بين الدّين والقوميَّة العربية، بل بين الإسلام واللّغة التي أنزل بها دستور الأمَّة الإسلاميَّة نفسها؛ أي: العربيَّة.
 ولقد واجهت اللّغة العربيَّة أقسى ألْوان التحدّي في سبيل القضاء على وحدتها، وتغْليب العامّيَّات الإقليميَّة عليها، وقد بدأت الحملة من منطلق مقارنة اللّغة العربية باللغة اللاتينيَّة الَّتي دخلت المتاحف، مخلية الطَّريق للغات الإقليمية واللهجات المحلّية، وبالجملة فإنَّ التَّحدّيات الصَّادرة من قبل هؤلاء المغربين والمستشْرقين يمكن أن تشتمِل وتتمثَّل على هذه المحاولات التَّالية:
1- المحاولة في إيقاف اللغة العربيَّة عن النموِّ في الأوطان الإسلاميَّة، بما فيها الدول العربيَّة وغير العربيَّة، علمًا أنَّها هي لغة الفِكْر والثَّقافة والعبادة لدى هؤلاء المسلمين، الَّذين قد يبلغ عددُهم حاضرًا  1.4 مليار؛ (مقالة: يحيي توين مرتضى، أثر العربية في ثقافة المسلمين).
 2- المحاولة المتواصلة في استبدال العاميَّة بالفصحى في كثير من البلدان العربيَّة.
 3- السَّعي في خلْق لغة وسطى بين العامّيَّة والفصحى؛ وذلك لإنزال مستوى الثَّقافة العامَّة إليها، وعزل اللّسان العربي والثَّقافة عن مستوى القرآن الكريم من الفصاحة.
 4- المحاولة في هدْم دولة الإسلام والقضاء عليها، وقد سلكوا في تحقيق ذلك طريق تجْزِئة الأمَّة الإسلاميَّة وتفتيتها، فأثاروا النعرات الإقليميَّة والقوميَّات، وجنَّدوا لذلك أعوانًا لهم داخل ديار المسلمين.
 5- محاولة الإغارة على حضارة الإسلام وثقافته؛ سعيًا وراء هدم عقائده وأفكاره، ونشْر الأفكار الغربيَّة بديلا عنها.
 6- الغزْو الفكري عن طريق التَّبشير.

اللغة العربية وأهميتها لبناء مجتمع قوي
جاء الإسلام واللغة العربية على درجة رفيعة من الفصاحة والبيان في الشعر والنثر، بيد أنها في حدود قبلية ضيقة، ثم اجتباها الله لتكون لغة الإسلام ولسان القرآن الكريم، كما قال الله - عز وجل -: ﴿ وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ﴾ (سورة الشعراء آية: 192-195)، وقال تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ ﴾ (سورة الشورى آية: 7)، وبلغ الرسول - صلى الله عليه وسلم - رسالة ربه بهذه اللغة المختارة، وأعطي جوامع الكلم، ليكون رحمة للعالمين ومرسلًا للناس كافة.
وبذلك تجاوزت اللغة العربية حدود القبيلة والقوم وارتبطت بالإسلام فكانت لغة عقيدته وشريعته وخطابه إلى جميع البشر. وعلى الرغم من عدم فرض اللغة العربية على الشعوب الإسلامية ذات اللغات الأخرى إلا أنها انتشرت بانتشار الإسلام في بلاد الشام والعراق وما وراء النهر من بلاد فارس والهند والسند وأنحاء واسعة من القارة الآسيوية حتى وصلت إلى أرخبيل الملايو، وانتشرت في مصر وشمال أفريقيا وغربها ووسطها وجهات السودان وعلى السواحل وفي الجنوب، وكذلك تأثرت اللغات الأوروبية بها منذ بداية الصراع البيزنطي الإسلامي في الشرق، ثم القوطي (الأسباني) مع الإسلام في إسبانيا، وما أسهمت به الحروب الصليبية على مدى قرون من الزمان، وعبر الاتصال الحضاري بين الحضارة الإسلامية والغرب في الأندلس وصقلية وجنوب إيطاليا وبلدان البلقان.
وقد كتب كثير من الباحثين المحدثين من المستشرقين وغيرهم عن أثر اللغة العربية في اللغات التي دخلت معها في صراع لغوي وأنجزوا إحصائيات علمية مقارنة للمفردات العربية المبثوثة خلال تلك اللغات وأظهروا نسبة تأثيرها؛ وعلى سبيل المثال قال أحد الباحثين: (درست أثر العربية في اللغات الشرقية وأحصيت نسبتها وهي: في الفارسية (67 و60%)، وفي التركية (30 و65%)، وفي الأردية (95 و41%)، وفي التاجيكية (39 و46%)، وفي الأفغانية (99 و56%).
وعلى هذا المنوال لاحظ الباحثون في اللغات المقارنة تأثير اللغة العربية العميق في سائر اللغات المنتشرة في العالم الإسلامي، وعللوا ذلك بتعليلات كثيرة ومتنوعة يأتي في مقدمتها الدين؛ ومهما كانت التعليلات فإن اللغة العربية حققت هذا الإعجاز؛ لأنها في المقام الأول حملت آيات القرآن الكريم المعجز إلى آفاق المعمورة، وصادفت الحفاوة والترحيب.

إن الإحاطة بمنزلة اللغة العربية ومميزاتها الأساسية التي عملت على قوتها وانتشارها من الصعوبة بمكان، ولكن نقتصر هنا على الآتي:
1. كون اللغة العربية ارتبطت بشعائر الإسلام وعبادته وغدت جزءًا أساسيًّا من لغة المسلم اليومية وفي حياة الأمة الإسلامية؛ لأنها ملازمة للفرائض الإسلامية؛ فقد أوجب الإسلام أن تكون إقامة الصلاة وتلاوة القرآن وترتيله، والأذان، ومناسك الحج والدعاء، وسائر الشعائر الدينية، ونحو ذلك باللغة العربية.
لكل هذا ارتقت منزلة اللغة العربية عند المسلمين، وتفقه المختصون في دراسة علوم العربية ووضع قواعدها في النحو والصرف، والبيان، والمعاني، وموازين الشعر، ورسم الحروف، والخط وغيرها، وألفوا فيها عددًا ضخمًا من نفائس الكتب، ومنهم العرب وغيرهم، ونشطت لذلك بوجه خاص في زمن باكر مدرستا البصرة والكوفة، فظهر في الأولى مثلًا أول معجم لغوي، وأول كتاب في أوزان الشعر، وأشهر كتاب في نحو العربية، منذ أكثر من اثني عشر قرنًا، وهو معجم العين وكتاب العروض للعالم الفذ (الخليل بن أحمد الفراهيدي البصري) والكتاب لسيبويه.
2. حركة التعريب التي بدأت في خلافة عبد الملك بن مروان، الذي بدأ يسك عملة عربية، وكانت الدواوين والأعمال الرسمية تكتب باللغة الإفريقية أو الفارسية أو القبطية حسبما تقتضيه الظروف المحلية فغير ذلك كله إلى اللغة العربية.
ومما ساعد على ترسيخ اللغة العربية ونشرها حركة الترجمة التي بلغت أوجها في عهد المأمون.
3. مميزات اللغة العربية الذاتية، فقد كسبت الصراع اللغوي الذي خاضته وهي تلازم انتشار الإسلام بسبب عامل جوهري هو أنها لم تكن لغة مستعمر غاصب ولا سلطان مستغل، وإنما كانت لغة الفطرة، لغة القلب والعقل، لغة الغيب والشهادة، لغة العدل والرحمة والمساواة والحق.

إلى جانب ذلك فإنها امتازت بخصائص فريدة كتب عنها كثيرٌ من الباحثين في اللغات، وكان من أبرز ما استنتجوه الآتي:
1.     أنها اللغة التامة الحروف، الكاملة الألفاظ، لم ينقص منها شيء من الحروف فيشينها نقصانه، ولم يزد فيها شيء فيعيبها زيادته.
واعترف بعض المستشرقين بهذه الخصيصة، إذ يقول (رينان): من أغرب المدهشات أن تثبت تلك اللغة وتصل إلى درجة الكمال وسط الصحارى عند أمة من الرُّحَّل، تلم اللغة التي فاقت أخواتها بكثرة مفرداتها ودقة معانيها وحسن نظام مبانيها.
2.     لا تقتصر اللغة العربية على كونها وسيلة تعبير، وإنما تتميز اللغة العربية بأنها ذات مضامين علمية ومنهجية وموضوعية وحضارية، وتميزت في ذلك كله بالبيان والسهولة والوضوح على الرغم مما قد يبدو من صعوبة تعلمها في بادئ الأمر.
وخلاصة القول: إن اللغات من أعظم شعائر الأمم التي بها يتميزون، واللغة العربية شعار الأمة الإسلامية، وهي من أهم وسائل تميزها وهو ما أدركته الأمة وسار تاريخها في ضوئها وبهدي منها.
قال ابن تيمية: اعلم أن اعتياد اللغة يؤثر في العقل والخلق والدين تأثيرًا قويًّا بينًا، ويؤثر أيضًا في مشابهة صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين، ومشابهتهم تزيد العقل والدين والخلق.
لقد سبق شيخ الإسلام برؤيته هذه علماء اللغات الذين خلصوا إلى القول بأن: اللغة ليست مجرد أداة للفكر بل هي جزء منه ووسيلة للتميز والحفاظ على الذاتية والهوية المستقلة عن غيرها.

مكانة اللغة العربية:
تمثل اللغة العربية قطاعا هاما في حياة الفكر العربي المعاصر ، فهي القاعدة الكبرى التي قام عليها هذا التراث العظيم ، والأداة الحية للأدب العربي ، واللسان الذي يربط الأمة ، وهي أساس قوى للوحدة بين أجزاء الوطن العربي ، ولا شك كانت لهذه اللغة مكانة ضخمة بين اللغات ، ذلك أنها لم تكن لغة عادية كاللغات في نشأتها وتطورها وامتدادها ، بل كانت مخالفة للنواميس الطبيعية التي عرفت لمختلف اللغات ، فقط ظهرت شابة مكتملة دون أن تمر بمرحلة طفولة أو تتعثر في طريق طويل ، وكان نضوجها من الأعاجيب التي شغلت كل الباحثين والعلماء .
والأعجب من هذا أنها عاشت قرابة ألف وخمسمائة سنة وهي تؤدي مهمتها على نحو حي متحرك ، تجاوبت فيه مع الزمن والتطور ، تفردت حتى بين اللغات السامية باطراد الأوزان وقواعد التصريف وقواعد الإعراب .
واستطاعت أن تجري مع الحضارات وتلبي مطالبها ، وقد أكد الباحثون أن بقاء اللغة العربية على هذا النحو يكاد يكون معجزة من المعجزات .
وقد دخلت اللغة العربية أوروبا حين فتح العرب صقلية والأندلس ، وتردد صداها في الأنحاء الجنوبية ، ولا يزال في الإسبانية والبرتغالية كثير من الكلمات المشتقة من العربية ، وقد جمعها العلامتان دوزي وانجلمان في كتاب سمياه ( مفردات الكلمات الإسبانية والبرتغالية المشتقة من العربية ) طبع في ليدن 1869م.
ثم دخلت الكلمات العربية في لغات أوروبية أخرى كالفرنسية والألمانية والإنجليزية ، وقد حوت اللغة الإنجليزية أكثر من ألف كلمة عربية ، وهناك 270 كلمة من أصل عربي تستعمل في اللغة الانجليزية يوميا ، منها كلمة أمير أو أمير البحر الإنجليزية التي أصبحت: ( أميرال )، وقد رصدت الأبحاث المتعددة أنها أضخم اللغات ثروة وأصواتا ومقاطع وحروفا وتعبيرات ، حتى إنها تفوق اللغة الإنجليزية في عدد الأصوات ، إذ بها (28) حرفا غير مكررة ، في حين أن اللغة الانجليزية بها (26) حرفا ، ومنها مكرر .
وفي اللغة العربية حروف لأصوات لا توجد في كثير من اللغات الأخرى ، مثل الحاء والخاء والضاد والطاء والظاء والعين والغين والقاف ، وقد اشتهرت اللغة العربية بالثراء من ناحية الألفاظ عن طريق المترادفات كثرة واضحة (400 اسم للأسد – 300 للسيف – 200 اسم للحية – 255 للناقة – 170 اسم للماء – 100 اسم للخمر – 70 اسم للمطر ).
كما تنوعت في الأساليب والعبارات : كالحقيقة والمجاز ، والتصريح والكناية ، ومن هذا الغنى والوفرة جاءت مقدرتها الكبرى في غزو الإمبراطوريتين العظيمتين الفرس والروم ، وخاصة الأولى التي نبغ منها كثيرون أمثال : الفيروزأبادي ، وابن المقفع ، وأبو نواس ، وأبو حنيفة ، وقد تحولت اللغة العربية بعد الإسلام من لغة الشعر إلى لغة الشرع والفقه ، وأصبحت لغة علمية وترجمت عنها عشرات من المؤلفات الفلسفية والعلمية .
وقد تجاوبت اللغة العربية مع التطور ، وفي ظل الحضارة العباسية استطاعت أن تساير النهضة ، وأن تعرف الآلات والأفكار ، وصلحت لترجمة مئات من آثار التراث اليوناني والروماني .
واستطاعت أن تقاوم أكبر معركة للقضاء عليها ، وهي حملة التتار على العالم الإسلامي ، ثم حملة الصليبيين ، واستطاعت أن تعتصم بالمعاهد الكبرى كالأزهر والقرويين والزيتونة التي ظلت حامية لها خلال فترة الضعف التي مرت بالعالم الإسلامي ، وفي عهد الأتراك العثمانيين واجهت معركة ضخمة في سبيل البقاء .
واستطاعت أن تقاوم الرغبة في القضاء عليها بإحلال اللغة التركية محلها في المدرسة والمسجد والمحكمة .
وقد أخذت اللغة العربية تزدهر في أوائل القرن التاسع عشر في مواجهة محاولة العثمانيين لزحزحتها عن مكانها ، ثم واجهت معركة أخرى من بعد أشد عمقا مع الاستعمار الذي حاول القضاء عليها ، وشهر عليها حربا أشد قسوة وضراوة .
وليس أدل على قوة اللغة العربية من اضطرار أمثال " أرنست رينان " وهو المتعصب الكبير ضد العرب وحضارتهم من أن يقول في كتابه " تاريخ اللغات السامية ":
" من أغرب ما وقع في تاريخ البشر وصعب حل سره انتشار اللغة العربية ، فقد كانت هذه اللغة غير معروفة بادئ بدء ، فبدأت فجأة في غاية الكمال ، سَلِسَة أيَّ سلاسة ، غنية أيَّ غنى ، كاملة بحيث لم يدخل عليها منذ يومنا هذا أي تعديل مهم ، فليس لها طفولة ولا شيخوخة ، ظهرت لأول أمرها تامة مستحكمة ، ولم يمض على فتح الأندلس أكثر من خمسين سنة حتى اضطر رجال الكنيسة أن يترجموا صلواتهم بالعربية ليفهمها النصارى ".
ورأى مرجليوث أستاذ اللغة العربية في جامعة أكسفورد أن :
" اللغة العربية لا تزال حية حياة حقيقية ، إحدى ثلاث لغات استولت على سكان المعمورة استيلاء لم يحصل عليه غيرها : الانجليزية والإسبانية أختاها ، وتخالف أختيها بأن زمان حدوثهما معروف ، ولا يزيد سنهما على قرون معدودة ، أما اللغة العربية فابتداؤها أقدم من كل تاريخ ".
ورأى ماكس فانتاجو في كتابه " المعجزة العربية " :
" أن تأثير اللغة العربية في شكل تفكيرنا كبير ، وقد لحظ ذلك الاجتماعي ( شبنجلر )، وسجل ملاحظاته في كتابه الشهير " انهيار الغرب ".
لقد لعبت اللغة العربية دورا أساسيا كوسيلة لنشر المعارف ، وآلة للتفكير خلال المرحلة التاريخية التي بدأت حين احتكر العرب على حساب اليونان والرومان طريق الهند ، ثم انتهت حين خسروها ".
ورأى جورج سارتون أنه :
" هكذا كانت العربية لغة الله – أي لغة القرآن -، ولغة الوحي ولغة أهل الجنة – لم يثبت هذا في الشرع -، أكد الرسول وجوب قراءة القرآن باللغة العربية ، ثم من نتائج هذا الاتجاه العقلي الواحد في التأكيد على الصحة المطلقة للغة العربية أن أصبحت اللغة العربية من اللغات البارزة في العالم ، وإحدى الوسائل الأساسية للثقافة في العصور الوسطى ، وهي - إلى اليوم - لم تزل لغة أمة موزعة في جميع بقاع الأرض .
إن اللغة العربية من أجمل اللغات في الوجود ، إن خزائن المفردات في اللغة العربية غنية جدا ، ويمكن بتلك المفردات أن تزاد بلا نهاية ، ذلك لأن الاشتقاق المتشابك والأنيق يسهل إيجاد صيغ جديدة من الجذور القديمة بحسب ما يحتاج إليه كل إنسان على نظام معين .
ولغة القرآن على اعتبار أنها لغة العرب كانت بهذا التجديد كاملة ، وقد وهب الرسول اللغة العربية مرونة جعلتها قادرة على أن تدون الوحي الإلهي أحسن تدوين ، يجمع دقائق معانيه ولغاته ، وأن يعبر عنه بعبارات عليها طلاوة ، وفيها متانة ، وهكذا يساعد القرآن على رفع اللغة العربية إلى مقام المثل الأعلى في التعبير عن المقاصد.

الخاتمة:
وجدت الدِّراسة أنَّ تأثير اللغة على المسلمين كبير، ولكن يبدو أنَّ الغربيين حاولوا كلَّ محاولتهم في سبيل ‏التَّفريق بين اللّغة العربية والثَّقافة الإسلاميَّة، ولكن لم ينجحوا؛ لأنَّ المسلمين كان لهم دور مهمّ لا يُنسى في ‏تاريخ تطوّر اللغة العربية، بإنشاء علوم لغويَّة متعدّدة تُعين على إحياء اللغة وإبقائها وانتشارها في أنحاء ‏العالم، حتَّى اعتبارها لدى الأمم المتَّحدة.‏
ومن المستحْسَن أن يقوم المسلمون بدوْرِهم في الدّفاع عن اللغة وثقافتها تِجاه العداوة الفكرية التي تحاول ‏التفريق بينهما وتغييرهما، بهدف القضاء عليهما.

المراجع

  1. مكانة اللغة العربية في الإسلام: الأستاذ الدكتور: حمدي فتوح والي.
  2. العمايرة، محمد حسن، 2000، الفكر التربوي، عمان: دار المسيرة للنشر والتوزيع والطباعة.
  3. جميل عيسى الملائكة، اللغة العربية ومكانتها الإسلامية في الثقافة العربية، رقم العدد: 1082 الموضوع: أدب وثقافة، 6.
  4. يحيي، توين مرتضى، 2007، أثر العربيَّة في ثقافة المسلمين، مجلة: إسهامات اللغة والأدب في البناء الحضاري للأمَّة الإسلاميَّة، ماليزيا: دار التَّجديد للطباعة والنَّشْر والتَّرجمة.
  5. عوض، يوسف نور، المقومات الإسلاميَّة للثقافة العربية، بيروت: دار القلم.
  6. وافي، علي عبدالواحد، 1962، فقه اللغة، القاهرة: دار النهضة.
  7. خليل، عماد الدين، مؤتمرات حول الحضارة الإسلامية، دار الصَّحوة للنشر والتَّوزيع
  8. اللغة العربية لغة القرآن ورسالة الإسلام/ لعلي الشابي.
  9. عالمية اللغة العربية/ لمحمد بن الحاج.
  10. اقتضاء الصراط المستقيم/ لابن تيمية.
  11. اللغة العربية في التعليم العالي والبحث العلمي/ لمازن مبارك.
  12. الصقعة الغضبية في الرد على منكري العربية " لنجم الدين الطوفي الحنبلي (761هـ) عقد فصلا بعنوان: فصل في الدلالة على فضل علم العربية (ص/233-279)
  13. الإعلام بمنزلة العربية من علوم الإسلام " للأزرقي الغرناطي .

تعليقات الفيس
4 تعليقات بلوجر

4 comments :

وما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد

كورس متقدم مايكروسوفت اوفيس

آخر المشاريع على GitHub

آخر الأعمال على بيهانس

FaceBook

من تغريداتي

من قناتي

صوت

الأكثر قراءة ومشاهدة